منطق الحرب الافتراضية
عندما يُعلن المتحدث العسكري للحوثيين "يحيى سريع": "استهدافنا حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان"، فإنه يُشير -وفقًا للمفهوم الحوثي الجديد- إلى عملية إطلاق الصاروخ فحسب، بمعزلٍ عما إذا كان قد أصاب الهدف أو تحول إلى حطامٍ في اللحظات الأولى. هنا، يتحول الفعل العسكري إلى "نشاط رمزي"، تُمنح فيه الجماعة نقاطًا وهمية مقابل التصويب نحو الهدف، حتى لو كانت أنظمة الدفاع الأمريكي قد حيدت التهديد قبل وصوله إلى الهدف.
بهذا المنطق، تُعيد الجماعة تعريف معايير النجاح في ساحات القتال، متجاوزةً الثوابت الاستراتيجية التي تقيس الانتصار بتعطيل قدرات العدو، أو تحقيق تقدم ميداني.
يقول الخبير العسكري علي الذهب في حديثه لـ"تعز تايم": "أي كيانٍ مسلح لا يُطلق صواريخه عشوائيًا نحو فراغ؛ لأن ذلك استنزافٌ لموارده.
لكن الحوثيين يلعبون لعبة مختلفة: فإما أنهم يطلقون فعليًّا مع علمهم المسبق بفشل الضربة، أو يختلقون عمليات وهمية لاستنزاف الخصم وإرباكه".
ميكانيزم "الاستهداف": بين استنزاف الموارد وحروب التضليل الإلكتروني
كشف بعض الخبراء العسكريين عن استراتيجية "الاستهداف" كما يقول أمجد حامد مهتم في الشؤون الإستراتيجية والحربية: " بيانات الحوثيين ليست مجرد خطابٍ دعائي، بل تُشكِّل تحديًا عمليًّا لقوات التحالف. فكل إعلان عن هجوم – حقيقي أو مُختلق – يُجبر الأنظمة الدفاعية على تفعيل أجهزة الاعتراض، وتشغيل أنظمة التشويش، وإطلاق الصواريخ الباهظة الثمن لاعتراض التهديدات المحتملة. عملية يُقدِّر الخبراء تكلفتها بملايين الدولارات شهريًّا، ما يحوِّل الهجمات الفاشلة إلى "فخٍّ مالي" يُثقل كاهل الخصم" وبدوره يكمل الأستاذ علي الذهب:
"اللافت هنا هو التطور التكنولوجي الذي يسمح للتحالف بتضليل الصواريخ الحوثية ذات التوجيه الحراري، وإسقاطها في مناطق آمنة، أو حتى اعتراضها إلكترونيًا قبل إطلاقها. الحوثيون قد يعلنون عن استهداف سفينة بينما صواريخهم لم تغادر مواقعها، أو تُوجَّه إلى مواقع فارغة عبر قرصنة إلكترونية، مما يحوِّل المعركة إلى مسرحٍ رقمي معقَّد".
من فيتنام إلى اليمن: تاريخ المصطلحات الملتبسة في ساحات الحرب
لا يخلو التاريخ العسكري من محاولات تحويل الهزيمة إلى انتصار عبر التلاعب اللغوي. خلال حرب فيتنام، استخدم الجيش الأمريكي مصطلح "معدل القتل" لقياس تقدمه، رغم عدم ارتباطه بأي مكاسب استراتيجية. الفارق اليوم هو تحويل المصطلح إلى سلاحٍ إعلامي ممنهج، تُستخدم فيه منصات التواصل كساحاتٍ موازية للقتال.
تُشير تحليلات إلى أن "الاستهداف" يُنتج واقعين متوازيين: فبينما تُظهر صور الأقمار الصناعية للسفن الأمريكية سلامتها التامة، تتصدر عبارة "استهداف حاملة الطائرات" عناوين الأخبار المحلية في اليمن، مُعززةً سردية "المقاومة الأسطورية" التي تتحدى القوى العظمى. هكذا، تُحقِّق الجماعة انتصارًا مزدوجًا: رفع معنويات أنصارها عبر تصدير صورة "الفعل لا رد الفعل"، وخلق حالة ترقبٍ عالمية تُعيدها إلى واجهة الأحداث.
حرب البيانات المفتوحة: حين يُصبح الإعلان عن الهجوم أهم من الهجوم نفسه
في عصرٍ تُحدِّد فيه تغريدات "إكس" (تويتر سابقًا) مسار الرأي العام العالمي، لم تعد الحاجة إلى إثبات نجاح الهجوم ملحّة كما في الحروب التقليدية. يكفي للحوثيين بث فيديو مُحرَّر لصاروخٍ مُطلق، أو نشر بيانٍ مُكثف، لخلق ضجّة إعلامية تفرض على الخصم الدخول في دوامة النفي والشرح.
يُوضح الذهب: "العالم اليوم يُصدِّق عينيه لا الحقائق. إذا نجح الحوثيون في تصدير وهم الهجوم عبر فيديو مُزيف، فسيظل الظل النفسي للتهديد قائمًا حتى مع دحضه". هذه الآلية تُجسد تحولًا جذريًّا في فلسفة الصراع: فالقوة الناعمة لـ"البيانات" قد تفوق أحيانًا تأثير القوة الصلبة للصواريخ.
التكلفة الخفية: مَن يدفع فاتورة "الأوهام العسكرية"؟
رغم إجماع الخبراء على محدودية الضرر المادي للحوثيين، إلا أن استراتيجيتهم تُخفي تكلفةً مزدوجة:
محليًّا تُحوِّل الجماعةُ الشعبَ اليمني إلى رهينة في لعبةٍ لا يربح منها سوى خطابها السياسي، عبر تمويل عمليات عسكرية وهمية من موارد يُحتاج إليها لإعادة الإعمار.
وعالميًّا تُجبر الاستهدافاتُ المتكررة -الحقيقية والمزيفة- دول التحالف على تحمُّل تكاليف باهظة للدفاع عن مصالحها، في معادلةٍ قد تُطول أمد الصراع لعقود.
مستقبل المصطلح: هل تُصبح "النية" معيارًا دوليًّا؟
يطرح المصطلح إشكاليةً قانونيةً حول شرعية اعتبار "النية" جريمةً أو فعلًا حربيًّا. فإذا كانت المحاكم الدولية تُجرِّم التهديدات الصريحة، فهل يُمكن مقاضاة جماعةٍ تستخدم مصطلحات ملتوية لتمرير التهديد؟
الواضح أن المجتمع الدولي لن يعترف بـ"الاستهداف" كمقياسٍ عسكري، لكن ثمة درسًا استراتيجيًّا هنا: في حروب المستقبل، قد لا تحتاج إلى تدمير البنية التحتية للعدو، بل فقط إلى اختراق بنيته الذهنية. وكما قال أحد الخبراء الذي لم اعد أتذكر اسمه: "عندما تُعلن عن هجومك بطريقةٍ ذكية، قد تُجبر الخصم على هزيمة نفسه بنفسه!".
هكذا، يظل "الاستهداف" الحوثي نموذجًا لعبقرية اللاعقلانية في الحرب: فشل ذريع على الأرض، لكنه نصرٌ ساحق في عقل مَن يُصدِّقه!