يأمل عاملون بمجالات صناعة الأخبار أن يؤدي الطوفان الوشيك من المحتوى المنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز مكانة الصحافة واستعادة الثقة بوسائل الإعلام، وبالمقابل يخشى آخرون أن يفقد عامة الناس ثقتهم في كل المعلومات غثها وسمينها، وهو ما يهدد بتبعات سياسية واجتماعية في مختلف أنحاء العالم.
ولكن في كل الأحوال، يعتقد خبراء ومسؤولون تنفيذيون في صناعة الأخبار، أن شهية الحكومات قد انفتحت لتنظيم قطاع الذكاء الصناعي العملاق وتعزيز حضورها فيه، فأين موقع وسائل الإعلام ومؤسسات الأخبار والصحافة لا سيما الرقمية منها؟
ويحاول التقرير السنوي لمعهد رويترز لدراسة الصحافة، الصادر قبل أيام، إجابة بعض هذه الأسئلة المتعلقة بتحولات الإعلام والتكنولوجيا، ويجتهد لتقديم التنبؤ والتحليل لتطورات المشهد الإعلامي العالمي للعام الجديد عبر استطلاع آراء أكثر من 300 قيادي بصناعة الإعلام من أكثر من 50 دولة وإقليما بينهم عشرات رؤساء التحرير والرؤساء التنفيذيين والمديرين الإداريين ورؤساء الأقسام الرقمية في المؤسسات الإعلامية الرائدة حول العالم.
يتناول التقرير التحديات والفرص التي تواجه وسائل الإعلام في هذا العام 2024، وأشرف عليه نيك نيومان الباحث في معهد رويترز لدراسة الصحافة، وهو المؤلف الرئيسي لعدد من تقارير الأخبار الرقمية السنوية التي تصدر عن معهد رويترز منذ عام 2012.
يدق التقرير جرس الإنذار أمام الصحفيين ومؤسسات الإعلام لا سيما مديري الأقسام الرقمية منها، محذرا من تطور التكنولوجيا بسرعة هائلة يعجز المتابعون عن استيعابها وفهمها، ويطالب المؤسسات الإخبارية ذات التفكير المستقبلي ببناء محتوى وتجارب فريدة لا يمكن استنتساخها وإعادة إنتاجها بسهولة من قبل الذكاء الصناعي الذي سيسيطر على إنتاج الأخبار والمحتوى بحلول 2026، كما يقول التقرير.
ويضع التقرير أمام الصحفيين وقادة مؤسسات الإعلام خطة النجاة عبر تطوير الأخبار المباشرة، والتحليل العميق، واعتماد التجارب البشرية المبنية على التواصل، وكذلك تطوير تنسيقات الصوت والفيديو الأطول التي يتوقع أن تصمد أكثر من النص أمام زحف الذكاء الصناعي.
وبالمقابل لا يدعو التقرير لمواجهة مع التكنولوجيا الجديدة، وإنما يحث على استخدام التقنيات -بما فيها الذكاء الصناعي- لجعل عمل الصحافة والإعلام أكثر كفاءة في مناخ اقتصادي يزداد صعوبة، وفي الوقت ذاته يدعو لاستخدام تلك التقنيات في نشر المحتوى وتوزيعه ليكون أكثر ملاءمة لجمهور مختلف ومتنوع، وتخصيص المحتوى لجمهور معين.
ورغم أنه من الصعب التنبؤ بتأثير الذكاء الاصطناعي على مجال الصحافة والإعلام الرقمي، يتوقع أن يكون عام 2024 فاصلا بالنسبة للموقف من التكنولوجيا الجديدة للذكاء الاصطناعي، وسيعتمد ذلك على سلوك منصات ووسائل الإعلام نفسها، كما سيتأثر بنتائج القضايا القانونية والفكرية المتعلقة بالملكية الفكرية والتي يمكن أن تفتح (أو تقيد بشدة) الطريقة التي يمكن بها استخدام المحتوى الإخباري لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون تعويض مناسب.
ويتوقع التقرير أن تستمر الضغوط على غرف الأخبار على إثر الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، فضلا عن تغير المناخ، وتداعيات الوباء، والانكماش الاقتصادي، وعلى الجانب التجاري، يتوقع أن يستمر تباطؤ سوق الإعلانات، وإلغاء ملفات الارتباط (الكوكيز) على إثر قوانين تنظيم الإنترنت، وتقليل الإحالة من المنصات الرقمية الكبيرة مثل مواقع التواصل، في تخفيض الوظائف على نطاق واسع في جميع مجالات الصحافة والإعلام.
اجتياح الذكاء الاصطناعي
ستجتاح قوة الذكاء الاصطناعي "التدميرية" مجال المعلومات الرقمية هذا العام مستفيدة من الاضطراب السياسي والاقتصادي حول العالم، ومن المرجح أن تكون الآثار على موثوقية المعلومات، واستمرارية عمل وسائل الإعلام الرئيسية عميقة في عام يشهد انتخابات حاسمة مقرر إجراؤها في أكثر من 40 دولة ديمقراطية، ويشهد كذلك استمرار الحروب في أوروبا والشرق الأوسط.
في ظل هذه الخلفية، وبالنظر لأن الغالبية العظمى من كل محتوى الإنترنت سيتم إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2026، كما يتنبأ التقرير، سيحتاج الصحفيون ووسائل الإعلام ومؤسسات إنتاج الأخبار إلى إعادة التفكير في أدوارهم ومراجعة أعمالهم ومهامهم سريعا وبشكل ملح.
ولا يقتصر أمر منافسة الذكاء الاصطناعي على مجال إنتاج المحتوى، وإنما النشر وتوزيع الأخبار، فهناك أدوار كبيرة مرتقبة للذكاء الاصطناعي في مجال النشر والتوزيع وستهدد أيضا الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية، وتمهد لانقلاب كبير في الأدوار.
وسيكون عام 2024 أيضا هو العام الذي تبدأ فيه تجارب البحث التوليدية (SGE) في الانتشار عبر الإنترنت، إلى جانب مجموعة من نماذج الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتي ستقدم طريقة أسرع وأكثر اعتمادا على الحدس للوصول إلى المعلومات المطلوبة، ويعني ذلك أن جمهور تلك الأدوات قد يستغني عن محركات البحث التي تقود إلى المواقع الإخبارية والمنصات الإعلامية.
وكنتيجة للتراجع الحاد في حركة الإحالة (الزيارات المحولة) من فيسبوك ومنصة إكس (تويتر سابقا)، من المحتمل أن يؤدي تغير الخوارزميات، مع مرور الوقت، إلى تقليل تدفق الجمهور إلى مواقع الأخبار الاحترافية، مما سيضع منصات الأخبار أمام تحديات وضغوط أكبر. ويتوقع التقرير أن تسعى وسائل الإعلام ومنصات النشر إلى كسر اعتمادها على منصات التكنولوجيا العملاقة ومواقع التواصل في محاولة لبناء علاقات ولاء مباشرة وقوية مع الجمهور دون وسيط.
ولهذا يتوقع التقرير أن تلجأ وسائل الإعلام، هذا العام، إلى بناء المزيد من الحواجز بالنسبة للمحتوى لتقليل استهلاك الذكاء الاصطناعي له، بالإضافة إلى توظيف محامين (سيكلفونهم مبالغ باهظة) لحماية ملكيتهم الفكرية، لكن تلك الحواجز المصممة لصد الذكاء الصناعي ستعرض العلامات التجارية لمؤسسات الإعلام لخطر العزلة، إذ ستجعل وصول الجمهور الأصغر سنا والأقل تعليما أكثر صعوبة لا سيما وأن الكثير منهم بالفعل يفضل الأخبار المولدة بواسطة الخوارزميات ولدى ذلك الجمهور روابط ضعيفة بشكل عام مع وسائل الإعلام التقليدية.
ولكن مع التغيير تأتي الفرص، وهذا التقرير مليء بالطرق الملهمة التي تتكيف بها المؤسسات الإخبارية حول العالم مع هذا العالم الجديد. إن تبني أفضل ما في الذكاء الاصطناعي مع إدارة مخاطره قد يكون هو السرد الأساسي للعام المقبل.
لكن هذه التحولات الكبرى تحمل في طياتها فرصا كذلك، ويشير تقرير معهد رويترز لبعض الطرق الملهمة التي يمكن أن تتكيف بها منصات الأخبار حول العالم مع هذا العالم الجديد.
كيف ينظر قادة الإعلام إلى العام المقبل؟
هذه هي النتائج الرئيسية من الاستطلاع الذي استند إلى عينة إستراتيجية مكونة من 314 من قادة مؤسسات الأخبار من 56 دولة، بينهم 76 رئيس تحرير، و65 رئيسًا تنفيذيًا أو مديرًا إداريًا، و53 رئيسًا للقطاع
الرقمي أو الابتكار.
عبر أقل بقليل من نصف العينة المشاركة بالاستطلاع (47%) من المحررين والمسؤولين التنفيذيين والمديرين الرقميين عن ثقتهم بمستقبل واعد للصحافة في العام الجاري 2024 لا سيما مع توقع تأثير أحداث مثل الانتخابات الأميركية على استهلاك الأخبار، بينما أعرب حوالي عُشر العينة (12%) عن انخفاض ثقتهم، مشيرين لأوجه قلق أبرزها زيادة التكاليف وانخفاض إيرادات الإعلانات وتباطؤ نمو الاشتراكات بالإضافة لزيادة المتاعب القانونية والمادية.
وأشار نحو ثلثي المشاركين في الاستطلاع (63%) لقلقهم من انخفاض الإحالة من مواقع التواصل الاجتماعي للمصادر والمواقع الإخبارية، إذ تُظهر البيانات المستمدة من تحليلات منصة "تشارت بيت" (Chartbeat) أن حركة المرور إلى مواقع الأخبار انخفضت 48% من فيسبوك خلال عام 2023، بينما انخفضت من منصة إكس (تويتر سابقا) بنسبة 27%، وردا على ذلك، قال غالبية المستطلعة آراؤهم (77%) إنهم سيركزون أكثر على قنواتهم المباشرة في العام المقبل، بينما قال آخرون إنهم سيجربون منصات بديلة.
وقال الناشرون وقادة المنصات والمواقع الإخبارية إنهم سيبذلون جهدا أكبر لتعزيز حضورهم في واتساب وإنستغرام بعد قرار شركة ميتا بفتح قنوات البث للناشرين، وأيضا تحسين حضورهم على منصات الفيديو وأبرزها تيك توك (55%) ويوتيوب (44%) وسيدرس بعضهم منصة غوغل ديسكوفر (Google Discover).
وبناءًا على كل ما سبق، يقول معظم الناشرين المستطلعة آراؤهم إنهم يخططون لإنشاء المزيد من الفيديوهات، والمزيد من الرسائل الإخبارية، والمزيد من البودكاست، مع الحفاظ على عدد مستقر من مقالات الأخبار (النصية)، لمحاولة تنمية الجمهور وكسب المعلنين، واعترف حوالي النصف (54%) من المستطلعة آراؤهم أن شركاتهم تركز بشكل أساسي على شد الانتباه بدلا من احترام وقت الجمهور (37%).
وستبقى مخاطر تجنب الأخبار الانتقائي والإرهاق من الأخبار مصدرا رئيسيا للقلق بالنسبة لوسائل الإعلام التي تسعى للاستمرار في الاهتمام بالأخبار الواردة من غزة وأوكرانيا وغيرهما من القضايا الجادة، وتشمل الإستراتيجيات التي يراها الناشرون مهمة جدا لمواجهة ذلك الخطر: تقديم مزيد من القصص الشارحة والموضوعات التفسيرية (الصحافة التفسيرية)، وتطوير أساليب سرد القصص لتركز أكثر نحو الحلول أو الموضوعات البناءة، والاستثمار في القصص الإنسانية الملهمة، وبدرجة أقل زيادة المحتوى المنشور من الأخبار الإيجابية والترفيهية كذلك.
ومن الناحية التجارية، يستمر الناشرون في الاستثمار في الاشتراكات والعضويات المدفوعة، حيث قالت الغالبية العظمى من المستطلع رأيُهم (80%) إنها ستكون مصدر دخل مهم، متقدم على الإعلانات. وأفاد معظم الذين يعملون على تقديم محتوى مدفوع بأنهم شهدوا إما زيادة طفيفة، وإما استقرارا في أعداد الاشتراكات خلال العام الماضي، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية في العام المنصرم.
وإذ يسعى عدد من الناشرين إلى إبرام صفقات ترخيص مربحة مع منصات الذكاء الاصطناعي هذا العام، ليس هناك تفاؤل كبير بأن يتم تقاسم الأرباح بالتساوي. ويعتقد ثلث المستطلعة آراؤهم (35%) أن معظم المال سيذهب لكبار الناشرين فحسب، بينما أفاد حوالي النصف منهم (48%) بأنه، في نهاية الأمر، لن يكون هناك الكثير من الأرباح لأي ناشر.
وأفاد أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع (56%) أن الاستخدام الأكثر أهمية للتكنولوجيا الجديدة سيكون استخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة الأخبار، يليه تقديم توصيات أفضل (37%) ، ثم الاستخدامات التجارية (28%). يتأرجح موقف الناشرين حول استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء المحتوى إذ يعتبره نصف المشاركين في الاستطلاع أكبر خطر يحدق بسمعة المؤسسة الإعلامية.
وشملت عينة البحث عدة دول حول العالم أغلبها في أوروبا والأميركيتين، وغاب عنها معظم بلدان الجنوب العالمي ولم تشمل أي بلد عربي.
ما التطورات المحتملة الأخرى في عام 2024؟
بناءً على توقع العام الماضي، يتوقع التقرير توقف المزيد من الصحف عن طباعة نسخ ورقية يومية مع ارتفاع تكاليف الطباعة وضعف شبكات التوزيع أو في بعض الحالات الوصول إلى نقطة الانهيار.
وتوقع التقرير كذلك أن ترى تحولا كبيرا نحو تجميع المحتوى الإخباري وغير الإخباري الرقمي حيث يسعى الناشرون الكبار إلى الحفاظ على الجمهور الحالي، وستتطور الاشتراكات وصولا لمحتوى من الألعاب، والبودكاست، والمجلات، والكتب، وحتى المحتوى الصادر عن منصات أخرى.
وبالنسبة لمنصات التكنولوجيا الكبرى توقع التقرير أن تلجأ في 2024 إلى نماذج الأعمال المدفوعة بشكل أكبر، إذ تسعى لتقليل اعتمادها على الإعلانات، ويتوقع أن تقدم منصات إكس وميتا وتيك توك مزيدا من الخدمات المتميزة، بما في ذلك خيارات اشتراك خالية من الإعلانات وأكثر حرصا على الخصوصية، وكان تقرير العام الماضي قد توقع بشكل صحيح أن يتنحى إيلون ماسك عن منصبه كرئيس تنفيذي لتويتر.
ستكتسب الروبوتات الذكية والمساعدون الشخصيون المزيد من الزخم في عام 2024، مما سيثير تساؤلات كبرى حول الملكية الفكرية، كما تتحسن تقنيات استنساخ المحتوى، مما يثير تساؤلات قانونية وأخلاقية.
وبحسب التقرير الاستشرافي، ستكتسب الروبوتات الذكية والمساعدون الشخصيون المزيد من الزخم في عام 2024، مما سيثير تساؤلات كبرى حول الملكية الفكرية، كما تتحسن تقنيات استنساخ المحتوى، مما يثير تساؤلات قانونية وأخلاقية.
وبشكل عام، ستستمر المعارك بين المضارين من ثورة الذكاء الاصطناعي والمستفيدين منها على مدار العام 2024، مما يؤدي إلى المزيد من النقاش حول مخاطره على البشر، وبينما يتولى المستفيدون من الذكاء الصناعي زمام المبادرة ستكافح الحكومات لمحاولة فهم التكنولوجيا الجديدة والتحكم بها.
المصدر : الجزيرة