ومنذ مطلع العام الحالي، يدفع المدنيون والأعيان المدنية، ثمن التصعيد العسكري الكبير في اليمن، والذي اتسعت رقعته إلى محافظات يمنية مختلفة، بعدما ظلّ القتال محصوراً بدرجة رئيسية في محافظة مأرب النفطية شمالي اليمن، طوال أشهر خلال العام الماضي.
وتستغل أطراف النزاع اليمني التساهل الدولي مع انتهاكات الحرب، لارتكاب المزيد منها. وفي مناسبات مختلفة، اقتصر دور الأمم المتحدة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان على التنديد فقط بالضربات المميتة، من دون التلويح الحقيقي بالمساءلة أو الشروع بفتح ملفات وقائع قد ترقى إلى جرائم حرب.
ولا يمتلك المدنيون في اليمن أي خيارات للنجاة من الموت، بالنيران المباشرة أو الألغام. ففي مقابل الترقب لما ستثمر عنه جولة المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ في المنطقة لخفض التصعيد، لن يكون أمام ملايين اليمنيين سوى انتظار نيران أطراف تنظر إليهم كساحة تصفية حسابات بين بعضها.
تصعيد قياسي في القتال باليمن
وشهد الأسبوع الحالي ذروة تصعيد قياسية للقتال واستهداف المدنيين. وبدت أطراف النزاع كما لو أنها تتسابق في ما بينها، لتصفية حساباتها مع بعضها البعض، من خلال استهداف الأعيان المدنية والإيقاع بأكبر قدر ممكن من المدنيين.
يقتصر دور الأمم المتحدة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان على التنديد فقط بالضربات المميتة
وقُتل ثلاثة أطفال على الأقل، أمس الجمعة، في غارة جوية نفّذها التحالف السعودي، على محافظة الحديدة غربي اليمن، بحسب ما ذكرت منظمة "أنقذوا الأطفال (سايف ذا تشلدرن)". وقالت المنظمة في بيان إنه "بحسب ما ورد، فإن الأطفال كانوا يلعبون في ملعب كرة قدم قريب" من موقع الغارة.
وقبل ذلك، سقط أكثر من 200 قتيل وجريح، في هجوم ليل الخميس - الجمعة على سجن في صعدة شمالي اليمن. وأعلنت منظمة "أطباء بلا حدود" أن حصيلة الغارة على السجن بلغت 70 قتيلاً و138 جريحاً. وكانت جماعة الحوثيين قد اتهمت طيران التحالف السعودي بتنفيذ الغارة، وبـ"ارتكاب مجزرة" في المحافظة.
ولم يشر التحالف السعودي إلى أي قصف على صعدة، لكنه تحدث في بيان عن استهداف الحديدة في غرب اليمن.
وأعلن البيان الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) "بدء ضربات جوية دقيقة لتدمير قدرات المليشيا الحوثية بالحديدة" الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، واستهداف "أحد أوكار عناصر القرصنة البحرية والجريمة المنظمة" في المحافظة.
ويأتي ذلك بعدما دشّنت جماعة الحوثيين يوم الإثنين الماضي جولة التصعيد الجديدة بهجمات في العمق الإماراتي، أسفرت عن سقوط ثلاثة مدنيين من العمّال في منشأة نفطية، بالعاصمة الإماراتية أبوظبي.
وجاء الرد السريع من مقاتلات التحالف السعودي، باستهداف منزل القيادي العسكري الحوثي، عبدالله قاسم الجنيد، في صنعاء، ما أسفر عن مقتله مع عدد من أفراد أسرته.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فالأربعاء الماضي، وغداة إعلان وسائل إعلام حوثية مقتل خمسة مدنيين بغارة جوية طاولت سيارة في الطريق العام بمدينة حريب جنوبي مأرب، جاء الرد الحوثي باستهداف محطة وقود في منطقة جعدر بمديرية عين، غربي شبوة، بصاروخ باليستي، ما أسفر عن مقتل أربعة مدنيين وإصابة اثنين آخرين.
كما طاول هجوم صاروخي مدرسة في مقبنة غربي تعز، ما أسفر عن مقتل طالب.
وتبنت جماعة الحوثيين تلك العملية. ووفقاً للمتحدث العسكري باسمها، يحيى سريع، فقد تم استهداف تجمعات لـ"ألوية العمالقة" بصاروخين باليستيين، ما أسفر عن مقتل وإصابة أكثر من 50 شخصاً.
ويبدو أن الثغرات التي أتاحها القانون الدولي الإنساني قد ساهمت في ارتكاب المزيد من الانتهاكات في اليمن، وهو ما تنبهت إليه المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يوم الثلاثاء الماضي، عندما شدّدت على ضرورة "أن يحترم أي هجوم، بما في ذلك الضربات الجوية، مبادئ التمييز والتناسب والحيطة في الهجوم".
ودعت المنظمة الأممية أطراف النزاع اليمني إلى "اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة للتحقق من أن الأهداف هي بالفعل أهداف عسكرية، ولتعليق الهجوم إذا اتضح أن الهدف ليس هدفاً عسكرياً، أو أن الهجوم سيكون غير متناسب". وشددت على أن عدم احترام مبدأي التمييز والتناسب "قد يرقى إلى جرائم حرب".
نذر عامٍ دامٍ في اليمن
وفقاً لمصدر أممي وآخر حقوقي يمني، فقد شهدت الفترة الممتدة من 1 وحتى 19 يناير/كانون الثاني الحالي، سقوط أكثر من 50 قتيلاً وعشرات الجرحى من المدنيين في مختلف أنحاء اليمن، جرّاء التصعيد العسكري الذي بلغ ذروته مع انطلاق عملية عسكرية تدعمها الإمارات لاستعادة السيطرة على مديريات عسيلان وبيحان وعين، غربي محافظة شبوة.
وأدت تلك العملية إلى اتساع رقعة العنف إلى محافظات شبوة والبيضاء ومأرب. كما ساهمت في عودة الغارات الجوية المتواصلة لمقاتلات التحالف على معاقل الحوثيين في صنعاء، لتقابلها هجمات جوية للحوثيين على الأراضي السعودية والإماراتية.
ومقارنةً بحصيلة بلغت 387 قتيلاً في أوساط المدنيين خلال 2021، أحصت جماعة الحوثيين أكثر من 50 قتيلا خلال أقل من ثلاثة أسابيع في يناير الحالي، جراء الغارات الجوية فقط، فيما أحصت منظمات وجهات حقوقية موالية للحكومة اليمنية، سقوط أكثر من 25 قتيلاً بنيران الحوثيين.
ولا تبدو الأرقام التي يعلنها الحوثيون دقيقة كلياً. ففي واقعة استهداف منزل مدير كلية الطيران والدفاع الجوي، عبد الله الجنيد، مساء الإثنين الماضي، تحدثت الجماعة عن سقوط 14 قتيلاً مدنياً، فيما ذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن حصيلة الضحايا بلغت خمسة مدنيين من أسرة واحدة فقط.
في مناسبات مختلفة، تضطر المنظمات الأممية إلى اعتماد الحصيلة التي تصدرها وزارة الصحة التابعة للحوثيين، وخصوصاً في المناطق التي يصعب الوصول إليها، كما هي الحال في مناطق صعدة المحاذية للشريط الحدودي للسعودية، على الرغم من الشكوك حول احتساب السلطات الحوثية عسكريين على اعتبار أنهم ضحايا مدنيون.
لكن هذه المنظمات تصدر حصيلة خاصة بها، في حال كان الهجوم بالمناطق الحضرية، وخصوصاً صنعاء.
وفي الهجوم الجوي الذي طاول منزل الجنيد، تحدثت مصادر متطابقة عن اجتماع كان يدور في المنزل لحظة القصف لقيادات عسكرية رفيعة.
ومن المرجح أن تكون الجماعة قد ضمّت جميع القتلى، بمن فيهم العسكريون، ضمن حصيلة الضحايا المدنيين، من أجل استثمار الواقعة لتأليب الرأي العام الداخلي والدولي ضد التحالف، وتحديداً الإمارات التي تُتهم بتنفيذ الهجوم.
ويبدو أن الأطراف اليمنية تلجأ لاستثمار ثغرة الميزة العسكرية في شنّ هجماتها على أعيان مدنية، وستتعامل مع سقوط الضحايا المدنيين على أنه هامش خطأ. ففي العملية الجوية التي طاولت منزل مدير كلية الطيران الموالي للحوثيين، سارع التحالف للإعلان عن استهداف "قيادات إرهابية".
وتتعامل جماعة الحوثيين بالمثل، حيث ظلّت تؤكد أن هجماتها الصاروخية التي أصابت محطات وقود في مأرب أو شبوة، وأسفرت عن سقوط مدنيين، وتحديداً من العمال، كانت تستهدف دوريات عسكرية من الجيش اليمني أو من "ألوية العمالقة".
ومقارنة بالحصيلة التي وثقتها الأمم المتحدة لشهر سبتمبر/أيلول 2021، والذي شهد سقوط 67 قتيلاً كأعلى رقم للضحايا المدنيين خلال آخر سنتين، يبدو أن الخسائر في صفوف المدنيين خلال الشهر الأول من العام الحالي ستتجاوز ذلك المعدل بكثير، وهو ما ينذر بعام قاسٍ على السكان، وفقاً لخبراء.
وأكد محمد باشا، وهو كبير محللي شؤون شبه الجزيرة لدى مجموعة "نافانتي" الاستشارية الأميركية، أن المدنيين هم الضحية الرئيسية لأي تصعيد عسكري على الساحة اليمنية لأطراف الصراع والقوى الداعمة لهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والذي يأخذ منحى تصاعديا منذ بداية 2022، على الرغم من تواصل الإدانات الصادرة عن المجتمع الدولي والإقليم المحيط.
وأشار الباحث اليمني، في إلى أن التصعيد الحاصل، أثّر سلباً على الجهود الدولية والأممية التي كانت مبذولة وتكثفت بعد انتخاب الإدارة الأميركية الجديدة في يناير 2021 وتواصلت طوال العام الماضي سعياً نحو التهدئة.
وذكّر باشا، بأن هذه الجهود، هدفت إلى "تحقيق توافق بين أطراف الصراع على وقف شامل لإطلاق النار وتخفيف حدة الكارثة الإنسانية وفتح مطار صنعاء وضمان تدفق سلس للسلع والمشتقات النفطية عبر ميناء الحديدة، وصرف مرتبات موظفي الدولة المتوقفة منذ نحو 5 أعوام، وكل ذلك تمهيداً لاستئناف المفاوضات السياسية لبلورة حل شامل ومستدام للأزمة اليمنية".
ورأى الباحث أن الجهود الأممية والأميركية لإحياء السلام، بالإضافة إلى مساع عراقية وعُمانية وكويتية، قد وصلت إلى طريق مسدود خلال العام الماضي.
واعتبر أن التصعيد العسكري فتح ملفات جديدة، ومنها إعادة طرح العقوبات الدولية على جماعة الحوثيين عقب احتجاز سفينة "روابي" الإماراتية، وكذلك استهداف العمق الإماراتي بهجوم باليستي وطائرات مسيّرة.
وخلافاً للنيران المباشرة، أزهقت الألغام الأرضية أيضاَ حياة اليمنيين، سواء في مناطق القتال المشتعلة بمحافظتي شبوة والجوف، أو في المناطق الساحلية التابعة لمحافظتي الحديدة وتعز، والتي تغيرت فيها خطوط التماس بعد قرار إعادة تموضع القوات اليمنية الغامض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وبحسب تقرير أممي حديث، حصلت عليه "العربي الجديد"، فقد شهدت الفترة بين 13 و15 يناير الحالي، مقتل ستة مدنيين وإصابة 18 آخرين بانفجار ألغام، في أربع حوادث شهدتها محافظات يمنية متفرقة.
وتقول الأمم المتحدة إن اليمن من أكثر الدول تضرراً من الألغام في العالم، وخلال الفترة الممتدة بين ديسمبر/ كانون الأول 2017 وحتى نهاية العام الماضي، سجل "مشروع مراقبة الأثر المدني" 491 حادثة من الألغام والذخائر غير المنفجرة في اليمن أسفرت عمّا لا يقل عن 1200 ضحية.
ويقف المدنيون في مأرب في مرمى المخاطر أكثر من غيرهم، مع اقتراب القتال من مناطق مأهولة في مركز مديريتي حريب. وترفض جماعة الحوثيين الاستسلام للهجوم الكاسح الذي تشنه "ألوية العمالقة" المدعومة إماراتياً، على الرغم من استمرار الضربات الجوية.
حتى اللحظة، لا تزال المعارك بعيدة نسبياً عن المدنيين في جبهات القتال الممتدة من جنوب وغرب وشمال مأرب، لكن أي اختراق حاسم، سواء لـ"ألوية العمالقة" أو للجيش اليمني الذي استعاد زخم الهجوم بعد عام كامل من التمترس في خندق الدفاع، سيكون أشد وطأة على المدنيين وخصوصاً بعد تسجيل أكثر من 60 ألف نازح منذ مطلع سبتمبر الماضي وحتى 8 يناير الحالي، حسب تقرير أممي.