نشرتُ يوم أمس منشورًا تناولتُ فيه وجهة نظري لأسباب صمت النخب اليمنية تجاه ما يحصل، وقدّمتُ خمسة أسباب. ولقد أكرمني البعض بتعليقات مكمِّلة للأسباب التي أوردتُها.
لا أنوي تقديم خطة عمل أو وضع توجيهات، ولكنها معالجة لأسباب الصمت وافتراض ما يمكن أن يعمل على تجاوزها.
أولاً: التخلص من عقدة الذنب
تعيش النخب اليمنية إجمالًا عقدة ذنب تجاه الجنوب السياسي اليمني. والحقيقة أن على النخب أن تتخلص من هذا الشعور، لأنه في أغلبه زائف ومدمِّر، وقد استُغل أسوأ استغلال لدرجة أصابت الجميع بالشلل.
على كل شخص أن يقول لنفسه : لستُ أنا من تحمّل وزر مفاسد الوحدة الاندماجية وطريقة صالح في إدارتها، بل إني ضحية لتلك الحقبة بالمعنى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولهذا خرجتُ في 2011 أطالب بتغيير ذلك الفساد وسوء الإدارة، والمطالبة بشراكة واسعة وحقوق كاملة لكل اليمنيين ايمانًا مني بالحقوق والمواطنة والشراكة ورفضاً للظلم.
لم أخُض حربًا ضد أحد، ولم أُسهم في نهب أراضٍ أو إقصاء أحد من وظيفته. لستُ مذنبًا. ونظرتي تجاه الوحدة تتجاوز روح الغنيمة والغلبة إلى روح المواطنة والمصالح التي تضمنها لبلاد موحّدة وبإدارة كفوءة يشارك فيها كل أبناء البلاد من اصرار على توزيع السلطة نحو أقاليم وتمكين ابناء كل منطقة من مواردها ضمن صيغة لا تفتك بالبلاد.
من له مشكلة مع صالح وحلفائه فعليه أن يتبعهم إلى قبورهم أو إلى حيث يوجدون.
ينبغي التصدي لان تتحول اي مظلومية إلى ماكينة تعسف وظلم. فقد فعل الحوثيون ومثلهم الانفصاليون أكثر مما كانوا يشكون منه معنوياً ومادياً.
ثانيًا: الوحدة ليست شأنًا شماليًا
الوحدة صيغة قانونية وعقد اجتماعي، والافتكاك منها لا يكون بالتغلب واستعمال السلاح وإقصاء الشركاء، بل عبر وسائل سياسية تضمن توفير مناخ آمن للتعبير عن الرفض أو التمسك. وإلا فإن ما يحدث هو تكرار معكوس لما نشكو منه، وما يشكو منه الانفصاليون تحديدًا من إقصاء وتهميش وفرض قسري. وليس أبناء الشمال فقط هم المتمسكون بالوحدة، بل هي مصلحة لمواطني في الجنوب والشرق ولهم كامل الحق في التعبير عن مواقفهم دون ان تُسكتهم آلة الترهيب الانفصالية بتهم التخوين أو الإرهاب، وهؤلاء ينبغي أن يُسمع صوتهم.
ما تزال هناك فرصة لخارطة طريق انجزت في إطار حوار وطني أن تكون مرشداً لمعالجة المشكلة /المشكلات اليمنية علينا أن نجعل منها الدليل في التعامل وتكييفها مع الواقع الجديد.
ثالثًا: سلامة تراب اليمن ليست أمنًا قوميًّا سعوديًا
يجب الكفّ عن ابتزاز السعودية بأمنها القومي: الوحدويون يطلبون من السعودية أن تناصرهم لحماية أمنها القومي، والانفصاليون يدّعون أنهم أخرجوا المنطقة الأولى لأنها تضر بأمن المملكة عبر الإرهاب وتهريب المخدرات.
السعودية بلد مقتدر ويدرك أمنه القومي، وعلى اليمنيين أن يفكروا بأمنهم القومي حين يفكرون. وهذا لا يكون إلا بالتوقف عن الابتزاز. الوحدة ليست شأنًا سعوديًا، ولا الانفصال شأنًا إماراتيًا.
رابعًا: الرفض القاطع للتوظيف السياسي لمكافحة الإرهاب
الإرهاب آفة حقيقية تمس كل المجتمعات، وليس عملًا سياسيًا موجّهًا تجاه الجنوب كما يتوهم البعض. تضرر من الجماعات المتطرفة كل يمني في كل منطقة. ومن العيب وصم محافظة ما أو منطقة ما بالإرهاب. ومكافحة هذه الآفة تتطلب تلاحمًا مجتمعيًا وعقدًا اجتماعيًا يساعد على محاربتها في سياقها، وعلى النحو الذي يحقق تجفيف منابعها ويؤهل المجتمع للسلم الأهلي.
احتكار طرف معيّن مكافحة الإرهاب دون رقابة أو توصيف لما هو الإرهاب يعني التوظيف والعبث بقضية أمنية، واستغلالها وخنق حريات الناس وطمس حقوقهم. ومثل ذلك مفاهيم الولاء والوطنية.
خامسًا: ما يجري في اللحظة يحدد المستقبل
على النخب ودوائر المال والأعمال والأوساط الثقافية أن تدرك أن صمتها وتغاضيها عن العنف الرمزي أو المادي لا ينتمي إلى البراغماتية أبدًا، بل يقود إلى دورات عنف متتابعة موجّهة تجاه طرف ما الان، ثم تضيق الدائرة غداً وتأكل نفسها.
صمت الفاعلين السياسيين والثقافيين عن حقوق الناس في حرية التنقل والاتجار والعيش يعني أنهم يحكمون على أنفسهم غدًا بهذا التضييق.
تجربة الحوثي كفيلة باستخلاص العِبَر.
ما يجري اليوم ليس شأنًا هامشيًا، بل هو من صميم متطلبات حياة الغد.
سادسًا: إقامة تحالف أفقي يحافظ على التلاحم الاجتماعي
يعود الشلل الحاصل الآن إلى إحباطٍ سائد بين صفوف الناس، وعجزٍ عن الفعل. لكن هذا ينطوي على عِلّة حقيقية أصابت البلاد، تتمثل في اهتراء التلاحم الاجتماعي، وكبح التضامن الإنساني والأخوي، ناهيك عن الوطني.
على النخب في مختلف أنحاء البلاد وخارجها إعادة النظر في روابطها، وتجسير الهوة فيما بينها، وإقامة تلاحم أفقي يتجاوز تحجّر المنظمات الجماهيرية والأحزاب المخدِّرة.
ظهور أصوات تضامن في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ترفض العبث بالتماسك الإنساني وتقييد الحقوق وتسميك الحدود الوهمية بين أبناء البلاد، هي خطوة أولى لاستعادة التعافي وتفعيل روح المبادرة.










