مقال رأي - مصطفى الجاسم
في المرة الأولى، كانت المبادرة الخليجية أشبه بمحاولة إنقاذ أخيرة لدولة تتهاوى ببطء. جاءت محمّلة بوعود الانتقال السلمي، وبفكرة أن السياسة يمكن أن تُدار بلا بنادق. غير أن الحوثي قرأ الاتفاق كما تُقرأ الغنيمة لا العقد؛ فدخل صنعاء لا ليُصلح النظام، بل ليكسره ويعيد تركيبه على مقاس السلالة.
كان الانقلاب فجًّا، صريحًا، بلا أقنعة: دبابات في الشوارع، وميليشيا تكتب دستورها على فوهة السلاح. في تلك اللحظة، لم ينقلب الحوثي على خصومه فقط، بل على فكرة الدولة نفسها، وعلى الرعاية الخليجية التي ظنّت أن التوافق أقوى من السلاح.
ثم جاءت المرة الثانية، أكثر التواءً وأقل ضجيجًا. مؤتمر التشاور والمصالحة في الرياض لم يكن ترفًا سياسيًا، بل محاولة لرتق ما تبقّى من المعسكر الجمهوري، وإعادة تعريف الشرعية بوصفها شراكة لا غلبة. هنا لم يظهر الانقلاب بملابس عسكرية، بل بربطة عنق سياسية، ولم يُعلَن في بيان، بل تسرّب في الممارسة اليومية: تعطيل، مناورة، فرض أمر واقع، والقول الدائم إن “القضية” تسبق الدولة.
المجلس الانتقالي لم يقتحم الرياض، لكنه فرّغ مخرجاتها من معناها. لم يُسقِط الشرعية دفعة واحدة، بل أبقاها قائمة بوصفها مظلّة شكلية، بينما سحب منها جوهر السلطة. كان انقلابًا ناعمًا، يشبه الصدأ: لا يُرى سريعًا، لكنه يأكل المعدن من الداخل.
بين الحوثي والانتقالي، تشابه لا تحجبه الفوارق. كلاهما قدّم مشروعه الخاص على اليمن، وكلاهما تعامل مع التوافق بوصفه محطة مؤقتة، لا عقدًا ملزمًا. الحوثي قال “الولاية”، والانتقالي قال “الجنوب”، لكن النتيجة واحدة: دولة مؤجلة، ومؤسسات مشلولة، وشرعية بلا أسنان. الفارق أن الحوثي رفع سلاحه في وجه الجميع، بينما اختبأ الانتقالي داخل الشرعية، يحتمي بها وهو يفرغها من مضمونها.
السعودية، في المشهدين، لم تكن ساذجة، لكنها راهنت على حسن النية أكثر مما يحتمل الواقع اليمني. راهنت على أن من يجلس إلى الطاولة سيحترمها، وعلى أن السلاح يمكن أن يُروَّض بالسياسة. غير أن اليمن، كما يبدو، لا يكافئ هذا النوع من التفاؤل. فالتسويات التي لا تُحمى بقواعد صارمة، تتحول إلى فترات هدنة قبل الانقلاب التالي.
الخطورة اليوم لا تكمن في انقلاب معلَن، بل في اعتياد الانقلاب كأداة تفاوض. أن يصبح خرق الاتفاق جزءًا من اللعبة، وأن تتحول الرعاية الإقليمية إلى مظلة تُستثمر لا مرجعية تُحترم. هنا، لا يخسر اليمن وحده، بل تخسر فكرة الدولة ذاتها، وتُستنزف الجهود السعودية بين إدارة الأزمات بدل حسم أسبابها.
هكذا تقف السعودية بين انقلابين: انقلابٍ أسقط الدولة بالقوة، وانقلابٍ ينهشها بالشراكة المشروطة. وبينهما درس واحد يتكرر بإلحاح:
أن الدولة لا تُبنى بالتوازن بين المشاريع المتناقضة، بل بحسم لصالحها؛ وأن من لا يؤمن بالدولة، سيستخدم أي اتفاق ليؤجل سقوطها… لا لينقذها.
في اليمن، لا تكفي النوايا الحسنة، ولا تكفي المؤتمرات. ما لم يُعاد الاعتبار لفكرة الدولة كخط أحمر، سيظل التاريخ يكتب نفسه بالعناوين ذاتها، ويغيّر فقط أسماء الانقلابيين.










