في غمرة احتفال اليمنيين ب 26 سبتمبر.. صوت أيوب طارش لا يزال يشعل الثورة في النفوس

أيلول/سبتمبر 26, 2023

أحببناه منذ حين، وسنظل نحبه إلى حين. هذا الفنان الكبير لا يزال نابضًا باليمن الجمهوري إلى ما لا نهاية. لن ننسى أيوب طارش ما حيينا، إنما نحن ننسى أولئك الذين عاشوا عدوانًا على الوطن أو لم يقدموا لنا شيئًا يستحق الذكر. 

مع كل مناسبة وطنية يشرق علينا وجه أيوب، ذلك الوجه الجميل، الفريد، الذي أضاءَ، وفاضَ، وملأ وجداننا الجمعي بأعذب وأنبل الأغنيات والأناشيد والترانيم الحلوة. 

في الأفراح والأتراح، يأتي أيوب، يعانق أرواحنا من غير مقابل، يتواجد بيننا وفي ضميرنا. 

ونحن لا نبالغ حينما نقول بأن أعظم الناس مَن غنى للناس أغنياتٍ نبيلةً أو غير هابطة. 

وتعلمنا من أغاني أيوب أن نحب الوطن حبًا واعيًا خالصًا، وكيف ننظر إلى الطبيعة الخلابة، إلى السماء والبحر والطيور والفلاحين نظرةً مفعمة بالتأمُّل والمحبة. 

وبين قلبه الواسع وأغنياته المتنوعة، يسكن الوطن الكريم الذي نحب، ونسعى إلى تحقيقه وبنائه على أبهى صورة ممكنة. 

أيوب يغنّي، إذن هناك وطن، وهناك حلم شاهق، وهناك أمل عظيم. ها هو أيوب يهتف بنا، وينشد لنا،  إذن فلننهض من القاع، لنصعد جميعًا من أسفل إلى فوق، ولنكن يمنيين ثائرين على الظلم والعبث وكل صور الاستبداد والخراب. إنه يجمعنا، ويوحِّدنا. إنه أيوب العظيم، وهذا صوته النسيمي الرقراق يغمر كل شيء في يمننا الغالي. 

يجيء هذا الرجل الثمانيني الفاضل من الينابيع الصافية، ويهبط في أعماقنا ساكبًا فيها حُبًا ونورًا وجَمالاتٍ بلا حصر. على أرض الواقع، اختلف اليمنيون، تقريبًا، على كل شيء، وأجمعوا على أيوب طارش. إن اليمنيين بطبيعتهم كرماء وأهل خير، مع القريب والغريب، ولكنهم مع أيوب طارش يعصرون قلوبهم حُبًا وإجلالًا، يبادلونهُ الوفاء بالوفاء، ويرسلون إليه أصدق التحايا. يشعرون به، لأنه شعر بهم منذ البداية، وخاطب مشاعرهم منذ أول أغنية شدا بها. 

حين يأتي الصباح يغني لنا أيوب من قلبه الصوفي العميق، فنذوب لصوته ويذوب فينا، كما لو كان يحتضن أحزاننا، يبلسم جراحنا، ويتفاعل مع أحلامنا المتطلعة إلى مستقبل أفضل.  

أيوب هو هذا النبض الغزير الساحر الذي يجيئنا طربًا أصيلًا، فيزرع في داخلنا الأمنيات والآمال والأزهار والمناظر الطبيعية الساحرة. 

وأيوب لا يفارقنا حتى في المساء، فهو الذي يضيء ليلنا العاري، ويُدفئ أرواحنا الباردة، ولولاه لكان اليمن خريفًا واحدًا، فإنه هو الربيع في خريف حياتنا، وهو حبل النجاة حين نوشك على الموت أو نكاد أن نغرق. 

من الريف من قرية صعبة في تعز جاء أيوب، وفي قلبه شعلة أمل وفي مخيلته الخصبة ألحان لا تنتهي. عانقته المدن والأرياف واغتسلتْ بصوته النقي، ورقصتْ على إيقاعات أغانيه. بمجيئه اِتّسعَ الوطنَ أكثر، وعشقنا الفن والحياة والأرض، ورأينا حقيقة أنفسنا في فَنّهِ. 

وكان أيوب ابن عصره، وصوت زمانه داخل هذا الوطن الجريح، ولا يزال أيوبنا سخي العطاء إلى يومنا هذا، مثل معين لا ينضب. 

في كل عام يحتفل اليمنيون بثورة السادس والعشرين السبتمبرية، التي أخرجت شعبنا من كهوف الظلام وسجون الماضي، وفي احتفالاتهم، يحضر أيوب، صوتًا وضميرًا وضوءًا، فيبتهجونَ بحضوره الغنائي الزاخر، وتمتد فرحتهم إلى أعماق الوطن. 

بدون أيوب وبغير أغنياته، فلا حماس لشعبنا، ولا شغف، ولا يقظة، فهو بالنسبة إلينا بمثابة الضوء الذي يرشدنا إلى خير طريق. 

في المدرسة، في طابور الصباح وحتى في تلك الاستراحة الطلابية الفاصلة بين الحصة الخامسة والرابعة، نستمع إلى أيوب فترفرِفُ أجنحةُ قلوبنا مع حلاوة صوته وحماس ألحانه، ويرفرف معنا عَلمُ الوطن في ساحات الجمهورية كلها. 

أيوب هو الصباح اليمني الندي العاطر، وهو نهاراتنا النقية الممتلئة بالأمل والعشق والشغف الوطني. ما زال يطربنا حتى الثمالة، نعاني فيعاني معنا، نفرح ويفرح لنا، وحين نغرق في السبات الأليم توقظنا أغانيه، وتأخذ بأيدينا إلى القمم الرائعة. 

وحين نتمزق ونعاني حالة الشتات، يلمُّ شملنا صوتُ أيوب، ويحشد مشاعرنا وأفكارنا لنلتقي حول كلمة سواء.

أيوب الصوت السبتمبري الوحدوي، ذلك الرجل الوفي الأصيل المخلص لوطنه وشعبه. أيوب الذي لم ينقلب على فنه ولا على مبادئه. وإن تغيرت الدروب، وتعقّدت ظروف الحياة، فإنه يبقى كما كان، ممتلئًا بالجمال والأمل والوطن. إنه أيوب، ذلك العاشق الملتزم بالقيم الرفيعة، الخاشع في محراب الإنسانية، الغارق في تاريخ وطنه حتى الذوبان فيه. 

إنه فنان حقيقي في كل شيء. أَعطى أكثر مما أَخذ، وتلك صفة لا يتحلى بها إلا العظماء وحدهم. 

امتاز بكونه مزيجًا خلّابًا من الأصالة والمعاصرة، في الغناء اليمني، جدّدَ وأضاف إلى ما سبق، ومع مرور الزمن وتزايد الإبداعات الأيوبية، أصبح أيوب حلقة وصل بين الوطن والشعب، وبين الإنسان والطبيعة. 

وتنبع أهمية وفَرادة أيوب طارش من كونه الصوتَ الأميزَ الذي عبّر عن شجون الفرد، وهموم الجماعة في آن معًا، وجمع بين السنابل وقطرات المطر، وبين الواقع والحلم، وظلَّ دائمًا مضيئًا من جميع الجهات، قريبًا من الكل، متصلًا بالحق والحقيقة. وبعبارة أخرى، انحاز أيوب للمُثُل، للحق والعدل والوحدة الوطنية، فكان حقيقيًا وصادقًا في كل ذلك. 

صوته بما فيه من عمق وبساطة، أضفى على المكان ألوانَ الفرادة، وملامح المهابة، وأشعلَ أنواره العاطفية والوطنية، باسم الوطن والإنسان، ضد كل الظُّلُمات والأفكار الظلامية. 

لا يوجد على حد ظني، مَن يضاهي أيوب في عذوبة صوته، وروعة ألحانه، وشِدة افتتانه باليمن كاملًا، ترابًا وناسًا وتاريخًا. وهل يوجد مَن يستطيع منازعته على مكانته العظيمة التي تربّعت على عرش قلوبنا، وتجذّرتْ في الأرض، واستولت على حُبِّ الشعب؟ 

في الماضي هناك أيوب واسمه اللامع، وفي الحاضر هنا أيوب وصوته الدافق، وفي المستقبل سيعيشُ بيننا، ويزدهرمجدهُ فينا، وسنرقص على دقات قلبه، ونغماتِ أوتاره، وتراتيل حنجرته. 

جمع هذا الفنان والمناضل، في شخصيته الفذة وفي روائعه الغنائية أجملَ الصفات، ورسم لنا، نحن أحفاده وعشاقه، طُرقًا واضحةً للحرية والمحبة والسعادة.

أيوب، اسمٌ إنحفرَ في أذهاننا بأحرف من نور، فكيف ننساه؟ وهل يُنسى الضمير الحي، أو يغيب صوتٌ له كل هذا الحضور العريض البعيد المدى؟ 

الحب ثورة ولا خير في الوطن إذا خلا من الحب. وهذا أيوب يغني، يدندن، يتلو علينا آيات الحب والجمال، يقول بعذوبته المعهودة: "كل عمري حُبْ.. لا أنَسى ولا اكرهْ". 

وفي سبتمبر، كل سبتمبر، نلتقي به ونعانق روحه الوطنية الخضراء. ثُمّ ها هو ذا يقترب منا، يغوص في وجداننا الوطني، يبعث فيه الأملَ بصوته الأخّاذ: 

"إنه يوم عطائي.. فيه 

أغنيتُ تاريخي حياةً ووجودا

وبهِ مارستُ جُودي 

وأطعتُ سماحاتي، وبرَّيتُ الجدودا

وبه مدّيتُ كَفيَّ 

وألحمتُ شَطريَّ، وحطمتُ القيودا". 

وحين نتعب، ونحس اليأس ينهش أرواحنا، سيما في هذا الزمن الصعب، يخطر ببالنا أيوب، وتحضر فينا صورته الزاهية، فيستيقظ ضميرنا على صوته السبتمبري الوهَّاج وهو ينشد ويتلو قائلًا: 

"سيدوم الخير في أرضي مُقيما

رافضَ الإصرار إلَّا أن يدوما". 

وغير ذلك أو في بقية الأيام، بل كل الأيام يحضر فينا صوته الإنساني الحر، فنستضيءُ به، ونهتدي على ضوئه إلى الهُويّة الجامعة، الوطن الواحد، ثم إلى المستقبل الواعد، وإلى مختلف المعاني الإنسانية الجميلة.  

هذا هو صوتنا الوطني الصادق، هذا هو ضمير شعبنا الخالد، وهذه شُعلته المتوهجة على كل شبر من الوطن.

 
 

Additional Info

  • المصدر: ضياف البَرَّاق
Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro