كما أنها الشريك التجاري الأول لمعظم الدول العربية، والشريك التجاري الثاني لإسرائيل، ناهيك أن مصالحها وتجارتها عبر مضيق باب المندب تأثرت بسبب التوتر في البحر الأحمر.
الصين الساعية، رفقة روسيا، لكسر الهيمنة الأمريكية وبناء نظام عالمي جديد، أمام امتحان حقيقي في حرب غزة، لإظهار ما لديها من أوراق ضغط ونفوذ في منطقة الشرق الأوسط لتحدي أو على الأقل مزاحمة الولايات المتحدة في المنطقة، أو الاكتفاء بدور دبلوماسي محدود، للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية مع جميع الأطراف.
موقف واضح بتأثير محدود
لم ترضخ الصين إلى الدعاية الإسرائيلية ولم تأبه باعتبارات تل أبيب من قبيل "من ليس معي فهو ضدي"، ولا حتى بالضغوط الأمريكية، ورفضت إدانة المقاومة الفلسطينية، بل واستخدمت حق النقض (الفيتو) ضد مشاريع أمريكية في مجلس الأمن الدولي لإدانة حركة حماس، وهجومها على مستوطنات ومواقع عسكرية إسرائيلية في غلاف غزة.
ودعمت كل مشاريع القوانين في مجلس الأمن الدولي الداعية لوقف الحرب في غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المدمر، كما صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار.
وليس أدل من الاستياء الصيني من الاستعلاء الإسرائيلية، موقف ممثل الصين الدائم لدى الأمم المتحدة تشانغ جون، الذي قاطع ممثل إسرائيل جلعاد إردان، بسبب تصريحاته اللاذعة ضد منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، خلال رئاسة بكين لمجلس الأمن الدولي، وطالبه بإظهار الاحترام للمشاركين في الجلسة.
ونظرا لموقف الصين الداعي لوقف الحرب، اختارتها اللجنة العربية الإسلامية، التي تضم وزراء خارجية عدة دول بينها تركيا، لتكون المحطة الأولى لجولتها الدبلوماسية، حيث أعلنت خلال الزيارة على أن هناك "تطابقا في المواقف مع الصين بضرورة وقف الحرب في قطاع غزة".
وحاولت بيكين التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكان لدبلوماسيتها عدة اتصالات وجولات مع الطرفين والأطراف الإقليمية والدولية الأخرى على غرار إيران والسعودية والولايات المتحدة، كما بادرت باقتراح تنظيم مؤتمر دولي للسلام، لكن هذه الدعوة لم تلق اهتماما دوليا خاصة من واشنطن التي ترى أن بكين تحاول سحب البساط منها كوسيط وحيد في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والغريب أن روسيا هي الأخرى لم تبد حماسة للمبادرة الصينية.
هذه المواقف لم تمر دون أن تخلف غضبا إسرائيليا، خاصة في بداية الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث أعربت تل أبيب عن "خيبة أملها العميقة" لأن بكين لم تدِن حماس ولم تذكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
لكن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، قال بعد نحو أسبوع من بداية الحرب إن الأعمال الإسرائيلية في غزة "تتجاوز حدود الدفاع عن النفس" وأن "العقاب الجماعي" لسكان غزة يجب أن ينتهي.
ورغم هذه المواقف الإيجابية بالنسبة للفلسطينيين والدول العربية والإسلامية، إلا أن تأثير الصين، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، على مساعي وقف الحرب، يبدو محدودا، ونفوذها لا يكاد يذكر، فحتى مبادرتها بشأن مؤتمر للسلام في المنطقة لم تجد آذانا صاغية، في ظل الهيمنة الأمريكية على القرار الدولي، والتعنت الإسرائيلي إزاء دعوات بكين لوقف إطلاق الحرب.
فبكين مازالت حذرة، ولا تريد التورط أكثر من اللازم في أزمات الشرق الأوسط، بالرغم من نجاح دبلوماسيتها في إصلاح العلاقات بين أكبر شريكين تجاريين لها في المنطقة؛ إيران والسعودية، ولكن تأثيرها على إسرائيل يبدو محدودا، رغم أن حجم التبادل التجاري بينهما يبلغ نحو 22 مليار دولار سنويا.
تجارة الصين في خطر
قد تكون الصين استفادت مؤقتا من الحرب الإسرائيلية على غزة من خلال تخفيف التركيز الأمريكي على حشد أساطيلها وتعزيز تحالفاتها بالشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا لتطويقها، إلا أن اقتصادها الذي واجه عدة صعوبات وتحديات العام المنصرم، مهدد بأن يطاله بعض شظايا الحرب في غزة، التي تتمدد شمالا (لبنان) وجنوبا (البحر الأحمر) وشرقا (العراق وسوريا).
فالاقتصاد الصيني الذي يعتمد على كثافة التصدير في مختلف أنحاء العالم، وخاصة عبر مبادرة الحزام والطريق، يتأثر بالأزمات الدولية عبر خطوط التجارة الدولي بين الصين وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وبالأخص مضيق باب المندب، البوابة الجنوبية للبحر الأحمر ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
واستهداف الحوثيين لسفن الشحن المتجهة للموانئ الإسرائيلية إلى حين رفع الحصار عن قطاع غزة، يمثل مصدر قلق للصين، رغم أن الحوثيين لم يستهدفوا أي سفينة شحن صينية إلى غاية مطلع العام الجديد، إلا أن ارتفاع أسعار التأمين على هذه السفن العابرة عبر مضيق باب المندب من شأنه أن يكون له بعض الانعكاسات السلبية على تجارة الصين، وزيادة التضخم، واضطراب خطوط التجارة العالمية.
فالصين تستخدم الموانئ الإسرائيلية كإحدى نقاط التوقف الرئيسية للبحرية الصينية، كما سلمت تل أبيب إدارة الجزء الشمالي من ميناء حيفا (شمال) إلى شركة "SIPG" الصينية لـ25 عامًا، ناهيك عن حركة سفن الشحن الصينية نحو الموانئ الإسرائيلية، وفق الباحث الصيني في الشؤون الآسيوية تشاو تشي جيون، في حديث لوكالة سبوتينك الروسية.
لكن المواقف الصينية الإيجابية تجاه وقف الحرب من غزة، وعلاقاتها القوية مع إيران، وعدم انضمامها إلى التحالف الأمريكي "حارس الازدهار"، من شأنه ألا يجعل سفنها عرضة لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
بل سيمنح شركات الشحن الصينية ميزة إضافية مقارنة بنظيرتها الأوروبية التي فضلت اتباع طريق الرجاء الصالح، بالالتفاف حول جنوب القارة الإفريقية، ما سيكلفها زمنا أطول، وبالتالي أسعارا أغلى، وتنافسية أقل.
وعلى صعيد آخر، تحاول الصين أن تلعب ببعض أوراقها الاقتصادية للضغط على إسرائيل لوقف الحرب مثل عدم إرسالها لعمالها إلى إسرائيل لملء الفراغ الذي يتركه استدعاء الاحتياطي، وفرار مئات آلاف الإسرائيليين إلى الخارج.
وتعرقل الصين صادراتها ذات الاستعمال المزدوج (مدني/عسكري) إلى إسرائيل، وهو ما اعتبرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، بأن بكين تفرض "عقوبات علينا" على خلفية الحرب في غزة.
حيث تقول الصحيفة نقلا عن مستوردين إسرائيليين إن "الصينيين بدأوا في خلق صعوبات بيروقراطية للشحنات الذاهبة إلى إسرائيل من المكونات التي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية".
كما أمن إعلان شركة "OOCL" الصينية للشحن البحري، وقف جميع رحلاتها من وإلى إسرائيل في البحر الأحمر "لحين إشعار آخر"، وفق وسائل إعلام، مَثّل ضربة أخرى "غير مباشرة" ضد الاقتصاد الإسرائيلي.
لكن هذه الضغوط الاقتصادية الصينية مازالت محدودة وخجولة ولا تؤت بثمارها على صعيد وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة، الذين يوجدون على شفى المجاعة.
فطيلة ثلاثة أشهر من الحرب على غزة، لم تكن كافية للصين لإبراز قدرتها على منافسة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، ناهيك عن قيادة العالم نحو عالم متعدد الأقطاب.
ورغم تصاعد نفوذ الصين الاقتصادي في إسرائيل، سواء من حيث حجم التجارة أو الاستثمارات إلا أن ذلك لم يشكل أي ردع ضد القصف الإسرائيلي "الشامل" للمدنيين في غزة، ولا حتى القدرة على فك الحصار وإدخال المساعدات للسكان المهددين بالموت جوعا إذا نجوا من القصف.