جب على أحمد أن يرتب كل شيء خلال شهور قليلة، وهي المهلة الممنوحة لليمنيين المقيميين في جنوب السعودية للرحيل، حسب تعليمات وقرارات سعودية شفهية قد تشكل الرصاصة الأخيرة التي من شأنها أن تنقل البلد الغارق إلى مرحلة عميقة من الكارثة الإنسانية.
يقول أحمد إنه عمل لسنوات غير قليلة في أحد القطاعات شبه الحكومية، وهو حاصل على الدكتوراة من إحدى الجامعات السعودية، وفيها يقيم مع عائلته، وأصبح له فيها أحفاد ولدوا في البلد نفسه، في حين لم يعد يربطه باليمن سوى بعض أقربائه الذين يعيلهم ببعض المعونات ومنزل أسرته القديم.
بيد أنّ عليه أن يغادر مناطق جنوب السعودية، وفقاً لتعليمات سرية أبلغتها السلطات المحلية السعودية لكل "الكفلاء" وجهات العمل، بإنهاء عقود العاملين والمتقاعدين من الجنسية اليمنية، دون إبداء أسباب.
والعودة إلى اليمن، بالنسبة لأسرة أحمد، خيار غير مطروح، بسبب الوضع الصعب الذي تعيشه البلاد، بما في ذلك الظروف الأمنية والسياسية، إذ أنه وبسبب موقفه المعارض لجماعة الحوثيين، يرى في العودة مخاطرة أمنية. وخلال الايام الماضية، شرع بالبحث والتقصي عن متطلبات الحصول على "فيزا" لدول أجنبية أخرى، وفقاً للتكاليف والمتطلبات الممكنة بالنسبة إليه.
في الجانب اليمني، فإن أسرة الطبيب خالد علي (اسم مستعار)، والذي خسر وظيفته مؤخراً في أحد المراكز الطبية السعودية، تعيش أياماً صعبة على وقع الخوف من المستقبل الذي ينتظر عائلها الوحيد، إذ أن وظيفته كانت مصدر الأمان المعيشي الوحيد لإخوته وإخواته الذين يعيشون مع والدته بمنطقة ريفية جنوبي غرب البلاد. ولا يقتصر الأمر على أسرته، بل إن الغالبية من الأسر في المنطقة التي ينحدر منها، هاجر غالبية رجالها للعمل في السعودية، وهم مهددون بنفس المصير.
شقيقه الأصغر محمد (16 عاما) يقول لـDW عربية، إن أسرته لا يمكنها تخيل "عودته"، في هذه الظروف. كما أن الآمال بحصوله على وظيفة بديلة في منطقة أخرى بالسعودية ضعيفة، حيث لم تتضح بعد الفرص المتاحة أمام المُسرحين من وظائفهم ببدائل فورية، فضلاً عن تكاليف انتقاله مع زوجته وثلاثة من أطفاله، كان قد نقلهم للعيش معه منذ أربع سنوات.
قرارات انتقائية
وصلت الأزمة الاقتصادية في اليمن مؤخراً مستوى قياسياً، بانهيار سعر العملة المحلية - الريال اليمني أمام العملات الأجنبية. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة المعترف بها دولياً تتطلع وتلمح في تصريحاتها، إلى تدخل سعودي لإنقاذ الاقتصاد بتقديم وديعة مالية للبنك المركزي اليمني، فاجأت الرياض اليمنيين، بإجراء على الضد.
فقد أفاد يمنيون عاملون جنوب السعودية، بإنهاء عقود عملهم ومنحهم مهلة أقصاها أربعة أشهر لترتيب أوضاعهم بالعثور على وظائف بمناطق أخرى أو المغادرة.
وبينما ركزت أغلب التقارير والمعلومات المحكومة بالسرية إلى حد كبير، على إنهاء عقود الأكاديميين والأطباء العاملين في مستشفيات وجامعات السعودية، كشف مسؤولون في الجالية اليمنية وآخرون مقربون من الحكومة لـDW عربية، أن القرارات لا تستثني أياً من اليمنيين، بما في ذلك، في المنشآت الصغيرة والمحال التجارية، وهي الفئة التي تشكل السواد الأعظم من العمالة اليمنية بالمدن السعودية.
ووفقاً للمصادر ذاتها، فإن القرارات في كل من مناطق جازان، عسير، نجران، الباحة، لم تستثنِ اليمنيين الذين هم من مواليد السعودية، كما لا تستثني اليمنيين المتزوجين من سعوديات، إذ يجري التعميم جهات العمل واستدعاء الكفلاء، لمطالبتهم بإنهاء عقود اليمنيين وعدم تجديد عقود العاملين من الجنسية اليمنية.
في الأثناء شهد السبت الماضي، تطوراً لافتا، تمثل بتواصل جامعات سعودية مع أكاديميين يمنيين تطالبهم بالعودة إلى أعمالهم بعد أن أنهت عقودهم خلال الأسابيع الماضية. الأمر الذي بعث الآمال بالتراجع عن القرارات، غير أنه ووفقاً لمصادر يمنية في السعودية، فإن الاستثناء ما يزال محصوراً بالأكاديميين، في حين تتواصل عملية التعميم لـ"الكفلاء" بترحيل الفئات الأخرى.
سابقة للعمالة ولتاريخ البلدين
على مدى سنوات مضت، اتخذت الرياض حزمة من القرارات التي أثرت على العمالة الأجنبية، بما في حصر العمل في العديد من المهن على السعوديين بمبرر الحد من البطالة، ونتيجة ذلك، تضرر عشرات الآلاف من المغتربين اليمنيين الذين أجبروا على المغادرة أو تضرروا بطرق مختلفة.
لكن هذه الإجراءات بالنسبة للسعودية لم تكن تستثني أي الجنسيات العاملة، خلافاً للقرارات الأخيرة، التي تستهدف اليمنيين دون غيرهم، الأمر الذي يعد سابقة في علاقات البلدين ويثير جملة من التساؤلات حول ما وراء القرار.
وحتى اليوم، فإن الإجراءات السعودية ما تزال تتخذ طابعاً غير معلن، ومع ذلك برزت بعض التعميمات السرية، في وثائق مسربة، كما هو حال وثيقة مؤرخة في الـ27 من يوليو/تموز المنصرم، تتضمن توجيهات إدارية في "مستشفى الأمير مشاري" بمنطقة "الباحة"، بعدم تجديد عقود اليمنيين.
الحكومة اليمنية والتزامات الرياض
على الجانب الآخر، فإن الحكومة اليمنية المعترف به دولياً، والتي يتواجد أغلب مسؤوليها في الأراضي السعودية في وضع لا يحسد عليه، إذ التزمت الصمت واكتفت على مدى أسابيع بالاتصالات غير المعلنة، مع الجانب السعودي بشأن التطور الخطير بالنسبة لليمنيين.
يوم الأحد الماضي صدر أول تعليق رسمي، يعلن مناقشة "الأزمة" في اجتماع مجلس الوزراء الذي يترأسه معين عبدالملك. وأعربت الحكومة في بيانها الذي صدر بعد الاجتماع عن "الثقة" بتجاوب "الاشقاء بالمملكة"، وذلك "انطلاقا من العلاقات التاريخية ووشائج القربى والاخوة المشتركة بين البلدين والشعبين الشقيقين والمصير المشترك الذي يجمعهما". وفق تعبير البيان.
إلى جانب ذلك، فإن الإجراءات السعودية، والتي تثير مخاوف من أن يتم تعميمها بمختلف مناطق البلاد، تطرح أسئلة عريضة بشأن الدوافع، ضداً على التزاماتها المعلنة بدعم الحكومة اليمنية من خلال قيادتها ما يُعرف بـ"تحالف دعم الشرعية" في اليمن، والذي ينفذ عمليات عسكرية ضد أهداف مفترضة لجماعة أنصار الله (الحوثين)، ومن الصعب، بنظر يمنيين تمرير مثل هذه القرارات، دون ربطها بالدور السعودي عسكرياً وسياسياً في اليمن.
لجنة قانونية وقرارات شفهية
على الرغم من الضبابية التي رافقت المعلومات بشأن ترحيل المغتربين، تحولت القضية إلى موضوع اللحظة الذي أثار موجة تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن، وامتدت التفاعلات إلى الجانب الحقوقي، حيث أعلن "الاتحاد العالمي للجاليات اليمنية في الخارج"، تشكيل لجنة قانونية من المحامين لطرح القضية على المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة ومبعوثها إلى اليمن هانس غروندبرغ.
ويقول زين محسن المرقب، الأمين العام للاتحاد العالمي للجاليات اليمنية، لـDW عربية إن "هناك قرارات شفهية تهدف إلى إخراج كل اليمنيين من أراضي السعودية"، ويضيف أنه "كان في بداية الأمر يعتقد البعض أن هذه القرارات تتعلق فقط بالاكاديميين والأطباء، واتضحت الصورة فيما بعد أنها تشمل كل اليمنيين من مختلف المهن".
الرقم الصعب.. والكارثة القادمة
وفي تقرير لها منذ أسبوع، نقلت وكالة رويترز عن محلل سعودي اشترط عدم تسميته، إن "الخطوة تهدف إلى توفير فرص عمل للمواطنين في الجنوب في إطار جهود لمعالجة مشكلة البطالة في السعودية والتي بلغت 11.7 بالمئة"، وأن "الخطوة مدفوعة أيضا باعتبارات أمنية في المناطق القريبة من الحرب، حيث يخوض تحالف بقيادة السعودية قتالا ضد جماعة الحوثي اليمنية".
في المقابل، يستبعد الباحث والمحلل الاقتصادي اليمني وحيد الفودعي أن تكون الأسباب اقتصادية بل سياسية، يمكن أن يكون من بينها المسألة الأمنية والوضع العسكري في الحد الجنوبي، حيث المناطق الحدودية التي تشهد معارك متقطعة بين الجيش السعودي وبين الحوثيين في على صعيد مناطق سيطرة الجماعة من الجانب اليمني، منذ سنوات.
ويقول أنه بالنسبة للآثار الاقتصادية "أعتقد ستكون عواقبه وخيمة في اليمن"، إذ أن كل مصادر الدخل الأجنبي توقفت أو شبه متوقفة وأهمها إيرادات النفط والغاز حيث التصدير في الحدود الدنيا، إلى جانب تراجع المساعدات الإنسانية. ويضيف أن "الرقم الصعب الذي يمكن أن يعتمد عليه اليمن في ميزان المدفوعات هو حوالات المغتربين".
ويشير الفودعي إلى أن القرار سيؤثر على الاقتصاد اليمني ويخل في ميزان المدفوعات، بالإضافة إلى "التأثيرات المحتملة على العملة الوطنية المهددة بانهيار بشكل أكبر في ظل اعتمادها على تحويلات اليمنيين في الخارج". كما أن "الأسر التي كان يعيلها هؤلاء المغتربون ستتأثر بشكل كبير"، وهو ما يجعل "الكارثة لا محالة قادمة".
الضغط للتراجع
بين "الثقة" التي أبدتها الحكومة اليمنية بتجاوب الرياض مع جهودها، وبين المخاوف من استمرار الإجراءات وإمكانية تعميمها في مختلف المناطق السعودية دونما إبداء أسباب، تبدو الأزمة مفتوحة على جميع الاحتمالات في قضية يمكن أن يترتب عليها مستقبل العلاقات بين البلدين إلى حد كبير.
ويقول الفودعي "حكومتنا لا حول لها ولا قوة وليس بيدها أي شيء تفعله لمواجهة هذه الإجراءات". بيد أنه يستدرك أن السلاح الوحيد بيدها من أجل عدم تنفيذ القرار هو "الجلوس مع الجانب السعودي" على كل المستويات إلى جانب ما يشكله الضغط المجتمعي والإعلامي، على ضوء هذه الإجراءات.