تستكمل هذه الفتاة اليتيمة القادمة من إحدى قرى مديرية شَرْعَب السَّلام محاضراتها اليومية، ثم تحملها قدماها المُجهدتان نحو المنزل الذي يعود لأحد معارف أسرتها، فتتناول وجبة غداء متواضعة تكاد تكون الوجبة الأولى لها في يومها الجامعي المرهق، لعدم توفر وجبة إفطار، وهو يومها المثقل أيضاً بغياب المال اللازم لدفع أجرة المواصلات التي تقارب 800 ريال في اليوم الواحد.
ليس ذلك ما يثقل كاهلها في مشوارها الجامعي الذي بدأته بعد 3 سنوات من إكمال مرحلة الثانوية العامة وحسب، بل ثمّة ما يشغل بالها ويؤرّقها ويدخلها في حالة شرود جراء التفكير، وهو كيفية تدبير الرسوم الدراسية الباهظة ودفع تكاليف الأنشطة الجامعية وشراء الملازم والأقلام والكتب والمراجع، فضلاً عن تأمين المتطلبات الشخصية التي لا تفي بها المبالغ الزهيدة التي تتلقاها من والدتها وشقيقها الذي يعمل في البناء.
تقول هناء لموقع بلقيس: "ما تشهدُه مدينة تعز من غلاء متواصل في المعيشة وارتفاع في أجور المواصلات والسكن وأسعار المواد الغذائية والوجبات الجاهزة والقرطاسيات وغيرها - عقّدَ مهمة تعليمي الجامعي، وأثقل كاهل أسرتي التي يصعب عليها تلبية احتياجاتي وتأمين سكن متواضع لي وتغطية نفقات الدراسة، وعلى رأسها الرسوم التي تبلغ 400 ألف ريال في العام".
وفرت أسرة هناء الرسوم الجامعية في عامها الدراسي الأول بشقّ الأنفس؛ إذ باعت والدتها ما لديها من أغنام ومدّخرات، وهو ما يصعب فعله في هذا العام، وقد لجأت أسرتها إلى اقتراض جزء من الرسوم، وحاولت هناء الحصول على تخفيض، فكتبت رسالة مؤثرة لرئيس الجامعة وتردّدت على مكتبه لتقديمها، لكن الموظفين حالوا دون لقائها به وأخبروها في كل مرة أنه ليس موجوداً.
وتتعدد أوجه معاناتها بفعل تدهور أوضاعها المادية والمعيشية مع أسرتها، وهو ما أجبرها على التقشف في مأكلها ومشربها وملبسها واستبعاد كثير من المتطلبات الضرورية من قائمة اهتماماتها، في الوقت الذي تقود كفاحاً مريراً من أجل مواصلة تعليمها الجامعي ومن أجل الحفاظ على تفوقها المعتاد وإحراز علامات مرتفعة تتصدر بها قائمة أوائل الطلبة.
فوق الاحتمال
تبذل هناء جهودا تفوق طاقتها وقدرتها على الاحتمال، وهو ما أثّر على صحتها وأنهك جسدها، فتُصاب أحياناً بالدوار والصداع، ويتهاوى جسدها من فرط الجوع والإعياء والتعب والأرق وسوء التغذية، وقد ذكر الطبيب المعالج لموقع بلقيس أن هناء محتاجة للغذاء الصحي اللازم لتتعافى من الوعكات التي تصيبها بين الحين والآخر.
وتواجه طالبات الجامعات القادمات من أرياف مدينة تعز كثيرا من الصعوبات التي تدفعهن إلى تقليل عدد وجباتهن اليومية إلى وجبتين أو وجبة، ويدفعهن إلى البحث عن سكن لدى الأقارب أو المعارف، ويعزفن عن ركوب الباصات للذهاب والعودة من الجامعة والتغيب عن حضور المحاضرات في معظم أيام الأسبوع واستعارة الملازم أو البحث عن نسخ إلكترونية لها وتخزينها في الهاتف المحمول والمتواضع.
ويتفاقم الأمر مع تراجع قيمة العُملة المحلية مقابل العملات الأجنبية الأخرى وما صاحبه من غلاء في المعيشة والأسعار وارتفاع قيمة أجرة النقل والسكن ومستلزمات الدراسة، ويحول دون مواصلة التعليم الجامعي والانتظام في حضور المحاضرات، وتذكر تقارير الأمم المتحدة أن ما يزيد عن 20% من طلبة الجامعات في البلاد باتوا غير قادرين على الحضور إلى قاعات الدراسة.
وتعتمد طالبات الجامعات الريفيات على المصروف الذي يحصلن عليه من أسرهن الغارقة في العوز والمنهكة بالتداعيات المأساوية للأوضاع الراهنة وانقطاع الرواتب وفقدان الأعمال وغياب مصادر الدخل وندرة المساعدات، وهو ما فاقم في السنوات الأخيرة من مستوى عجز تلك الأسر عن توفير نفقات التعليم الجامعي للفتيات.
نهى محمد (25 عاماً) طالبة في المستوى الثالث بقسم اللغة الإنجليزية التابع لكلية الآداب في جامعة تعز تقول لموقع بلقيس: "إن المصروف الذي أحصل عليه من والدي لا يكفيني حتى لدفع أجور المواصلات إلى الجامعة، فما بالكم بإيجار السكن الذي أتقاسمه مع زميلاتي وقيمة الطعام والمياه والملابس والمستلزمات الجامعية التي ترتفع أسعارها يوماً بعد آخر".
دفعتها الظروف المادية الصعبة لأسرتها التي تعيش في إحدى أرياف مدينة تعز معتمدة على الزراعة لتأمين احتياجاتها ومتطلباتها نحو إيقاف القيد والتوقف عن التعليم لعامين لازمها فيهما الحزن واليأس، حتى استأنفت الدراسة في العام الدراسي الحالي، وذلك عقب انتقال شقيقها للعمل في مدينة تعز وتكفّله بتوفير مصاريفها الجامعية.
ثقل وعبء
تثقل نفقاتُ تعليم الفتيات الريفيات في الجامعات كاهلَ الأسر التي توجّه بعضها خلال سنوات الحرب نحو صرف اهتمام الفتيات عن الدراسة في الجامعة وحرمانهن منها أو تأجيل موعد ذلك لسنوات، في حين تضع أسرٌ أخرى جدولا محددا لأفرادها الذين تُلحقهم بالجامعة حسب الترتيب، كما يقول عبد القوي مهدي (58 عاماً) لموقع بلقيس.
وتدفع عشرات الأسر الريفية مقابل حرصها على تعليم فتياتها في الجامعات الثمن باهضاً؛ إذ يأتي ذلك على حساب راحة بقية أفرادها وحرمانهم من كثير من الاحتياجات والمتطلبات المعيشية، وهو ما يجعل "مهدي" وغيره يأملون في التفات المنظمات نحو المعاناة التي تمر بها الطالبات وأسرهن والعمل على التخفيف منها وسدّ الفجوة التي خلفها غياب الحكومة الشرعية والسلطات المحلية في المحافظة.
وتتجاهل الجامعات العاملة في تعز معاناة الطالبات القادمات من الأرياف وظروف أسرهن المأساوية وتتقاعس عن مساعدتهن وتقديم التسهيلات اللازمة لهن من خلال تخصيص مقاعد مجانية لهن أو تخفيض الرسوم الدراسية وتكاليف الأنشطة الأخرى بدلاً من التوجّه المستمر نحو مضاعفتها، طبقاً لناشطين.
سمير إسماعيل ناشط أوصله عمله الخيري في عدد من الأرياف ومعايشته لأوضاع الأسر الريفية إلى مدى حاجة طالبات الجامعات الريفيات للمساعدة بتوفير وسائل نقل ووجبات إفطار مجانية، وهو ما دفعه في وقت سابق إلى إطلاق مبادرة للنقل المجاني من مناطق متفرقة داخل المدينة والأرياف المحيطة بها في مسعى للتخفيف من أعباء الطالبات وجبر خاطر أسرهن التي طلبت منه ذلك بدلاً عن منحها سلالا غذائية.
ويذكر إسماعيل لموقع بلقيس: "تعيش طالبات الجامعة في الأرياف المجاورة لمدينة تعز بؤسا وشقاء كبيرين، فالطالبات في منطقة أدود التابعة لمديرية صَبِر المَوادِم يذهبن إلى الجامعة ويَعدن منها سيراً على الأقدام، ويقطعن تحت أشعة الشمس الحارقة مسافة طويلة، ويسلكن الجبال والوديان ومجاري السيول لأكثر من ساعتين".
وأضاف: "معاناة الطالبات في مديرية مَشْرَعة وحَدْنان بجبل صَبِر لا تختلف عن غيرهن، فكثير منهن توقفن عن التعليم الجامعي، والبعض منهن يتغيبن معظم أيام الأسبوع لافتقارهن للمال وعدم توفر أجور المواصلات التي تصل إلى 3 آلاف ريال للراكب الواحد، وهو الحال ذاته بالنسبة للطالبات القادمات من المسراخ واللواتي يظهر على ملامحهن وهندامهن مدى سوء أوضاعهن الإنسانية وشدة حاجتهن للمساعدة.
السكن الجامعي
يشدّد ناشطون على ضرورة مساعدة الطالبات؛ لأنّهن قليلات الحيلة والقدرة على التصرف، ويخجلن من طلب المساعدة أسوة بالطلاب، كما يعد الناشطون معضلة السكن وارتفاع إيجارات المساكن من أبرز التحديات التي تواجههن وتدفع بعضهن نحو البحث عن سكن خيري والاستفادة من خدمات الإيواء التي يقدمها.
تقول مديرة سكن الطالبات في جامعة تعز حليمة حمّادي لموقع بلقيس: "إن إقبال طالبات الأرياف كبير جداً على السكن، والسكن لا يستطيع استيعاب عشرات الوافدات عليه سنوياً؛ لأن طاقته الاستيعابية محددة بعدد الأسِرّة والدواليب بالسكن؛ إذ يخصص سرير وخانة من دولاب لكل طالبة.
ويتراوح عدد الطالبات المتقدمات سنوياً على السكن بين 60 إلى 80 طالبة، وهو ما يرجع إلى موقع السكن في داخل أسوار الجامعة وقربه من الكليات وإحاطته بحراسة من عناصر أمن الجامعة، في حين يبلغ عدد المقيمات فيه 192 طالبة ينحدرن من شَرعَب السَّلام والرَّوْنة والرَّاهِدة والتُّربة وبني يوسف وسامِع والأَعْبُوس والصِّلو والدِّمْنة والمَعافِر وجَبَل حَبَشي والمِسْراخ والأَقْرُوض والحَوْبان وماوِية ومَوْزَع والوازِعيّة والمَخاء وغيرها".
وتلفت حليمة إلى أن السكن مجهّز بالفرش والدواليب وغرف نوم حديثة، ويعتمد نظام الأجنحة التي يستوعب فيها كل جناح من 6 إلى 8 طالبات، كما تُوفّر فيه المياه الخاصة بالنظافة والشرب وحل المشاكل إن وجدت، وفيه منظومة طاقة شمسية وخط كهرباء لشحن الهواتف والحواسيب، إلى جانب ما تقدمه مؤسسة وقف الواقفين التي تزود المقيمات في السكن بوجبة غداء جاهزة.
وتتعدد احتياجات سكن الطالبات، فيحتاج إلى كثير من المساعدات، من بينها توفير المياه للاستخدام وإصلاح فناء السكن وتجهيزه، ليكون متنزها ومكانا لنشر الغسيل الخاص بالطالبات اللاتي تحتاج مجموعة منهن إلى مساعدات مالية لتلبية احتياجاتهن الشخصية، وهي احتياجات ليست خفية على أحد خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية وغلاء المعيشة والأسعار.