وتدفع التقلبات السياسية وجملة التحديات التي تخلفها الحرب التي لا تزال بلا أفق إلى إحباط الشباب وتقويض طموحاتهم في تغير الواقع الراهن، وذلك لأسباب عديدة لعل أبرزها غياب الحامل السياسي الفعلي لهذه الفئة النشطة أمام وجود حامل سياسي مثلتها القيادات التقليدية لاحزاب وتيارات المعارضة في اليمن والتي كانت وفقا لتقديرات العديد من المراقبين للمشهد السياسي اليمني حينها، أكثر تشابكا وتنظيما مقارنة بجميع القوى والقيادات التي كونها الشباب اثناء مطالبتهم بالتغيير في ذلك الوقت.
احصائياً تقدر نسبة الشباب في اليمن بحوالى 34% من السكان الذين تجاوز عددهم 30 مليون نسمة وفق تقديرات غير رسمية، ومع أن معظم السكان في اليمن يعيشون واحدة من أسوأ الأزمات الانسانية في العالم، إلا أن شريحة الشباب تعكس جانب أعمق من هذه المأساة، فالشباب اليمني الحالم في عام 2011 بواقع مختلف في البلاد، لم يستفيق بعد من كابوس الحرب التي تجاوزت عامها الثامن، والأسوأ من ذلك هو توقعات التقارير الدولية بشأن مستقبل اليمن بشكل عام، والكلفة التي لن تتحلمها فقط الاجيال الحالية بل وايضا الاجيال القادمة بفعل التقلبات السياسية وفاتورة الحرب.
واقع مأزوم
سعت القوى واحزاب المعارضة اليمنية بعد ثورة الشباب إلى خلق قطيعة مع نظام الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، لكنها لم تتمكن من خلق قطيعة مع ثقافة النظام نفسه وبالتالي، تم إعادة تشكيل نفس شكل السلطة التي طالب الشباب بتغييرها في بداية الربيع، بالإضافة إلى قيام نفس قوى المعارضة بإعادة تطبيق نمط الإدارة القائمة على فكرة المحاصصة وغياب الكفاءات في هرمها, وهو ماكان واضحا في صورة السلطة التي تم تشكيلها بعد المرحلة الانتقالية في اليمن وتحديدا في العام 2013 من ممثلي حزب السلطة (المؤتمر) واحزب المعارضة(احزاب اللقاء المشترك) الذين اصبحوا قادة فعليين في مؤسسات الدولة واجهزتها الرسمية و لهم حصة جيدة في السلطة في ذلك الوقت.
ازداد الوضع تأزما في البلاد بعد الحرب التي بدأت ملامحها مع سيطرة المليشيا الحوثية على العاصمة صنعاء واسقاط مؤسسات الدولة بقوة السلاح في العام 2014 لتدخل البلاد في نفق مظلم من الصراعات البينية والازمات المتلاحقة.
وتعكس مؤشرات الأمم المتحدة بشكل دوري هذا الواقع المأزوم، فالصراع في اليمن خلق أكبر أزمة إنسانية في العالم حيث قدرت المنظمة عدد قتلى الحرب بـ 377 ألفا بحلول نهاية عام 2021. وقالت إن أكثر من 21.6 مليون شخص، أي ثلثي سكان اليمن، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية . فيما قدرت عدد النازحين ب4.5 مليون شخص ، أي ما نسبته 14 في المائة من السكان.
دوافع متعددة
هذه الأسباب والازمات العديدة المتداخلة لـم تؤدي فقط إلى عدم انجاز مطالب التغيير السياسي في البلاد ، بل أثرت أيضًا على مجمل طموحات الشباب وحولتها إلى أحلام وشعارات رومانسية غير متصلة بالواقع، ودفعت فئة الشباب الذين كانوا أكثر تأثيرًا ونشاطًا وطموحًا في خلق شكل سياسي جديد داخل البلاد للعيش في دائرة من العزلة و المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، والتي كانت نتيجة لعوامل متعددة يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
- انهيار مؤسسات الدولة والصراع السياسي:
بعد الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية في العام 2014 بفعل التحرك المسلح لجماعة الحوثي واسقاط العاصمة صنعاء في ذلك الوقت, تعددت مراحل واشكال الصراع المسلح في البلاد, هذا الصراع اثر سلبًا على حالة الشباب النفسية وقدرتهم على تحقيق التغيير الذي خرجوا لانجازه لينتكسوا بعد ذلك ويضنوا انهم قد اصبحوا سبب لوجود الازمة والحرب في البلاد التي سببتها بالنظر الى الواقع أطراف عديدة متصارعة.
لقد أنتجت مرحلة تعثر التغيير أزمات نفسية كثيرة لجيل ما بعد الثورات يمكن تلخيصها بحسب بعض علماء النفس بـ مرحلة لإحباط الوجودي وهي مرحلة تاتي بسبب صدمة نفسية متصلة بالوضع العام والاحداث السياسية والتي يتعرض لها الفرد او مجموعة من الافراد و يخسرون بفعلها توازنهم النفسي[1].
في اليمن لم تكن حالة الشباب النفسية بعيدة عن هذا الوضع حيث أدى تعثر الربيع إلى تحول الشباب إلى فئة مهزومة وفاقدة للثقة في خلق مستقبل جديد، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، وبفعل انهيار مؤسسات الدولة بشكل كلي، أصبح الشباب اليمني يعيش داخل دائرة كبيرة من العبثية والعجز، ينظرون إلى حياتهم على أنها باتت فارغة لا جدوى منها، بالاضافة الى تكون شعور عدم الرضا عن الذات والواقع والحياة الشخصية والمجتمع بأكمله بسبب فشل مرحلة التغيير السياسي كليا في البلاد.
كل ذلك افقدهم الأمل وادخلهم في مرحلة الشعور بالخسارة وغياب المعنى لكل ما قدموه وذلك بحسب متخصصين في علم النفس، لا سيما بعد كل تلك الأحداث المأساوية والتضحيات والفقدان والاعتقال والتعذيب والتشرد والاغتراب والعيش في المنفى وما تبع ذلك من انهيار الدولة بعد التمرد المسلح لجماعة الحوثي.
- تراجع الثقة في القوى السياسية:
وتعكس قراءة التداعيات النفسية لتحولات ما بعد الثورات العربية، ظهور مؤشر تراجع الثقة بالقوى السياسية، في ضوء ارتفاع سقف التوقعات المجتمعية واصطدامها بالقدرات المحدودة لنظم الحكم التي أخفقت في تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمواطنين في فترة الربيع؛ وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، واحتدام الصراعات الأهلية الدامية في عددٍ من الدول العربية، وتصاعد وحشية الجماعات الإرهابية، كل ذلك أدى لانتشار أعراض الاختلالات النفسية في بعض الدول العربية ، مما قوض أركان الاستقرار والاتزان المجتمعي في تلك الدول[2].
وقياسا على هذه القراءة يمكن القول أن الشباب في اليمن لم يكونوا بمعزل عن هذه التداعيات حيث انتجت مرحلة تعثر الربيع التي عاشها ومازال يعيشها ذلك الجيل الشبابي الذي انخرط في العمل السياسي منذ بداية تكوينة المعرفي دون أن يوفر لنفسه مساحة معينة للعيش خارج هذه الدائرة المغلقة من التفكير المثقل بالخيبات شعورا كبيرا باليأس خاصة بعد تعرض جهوده في خلق التغيير السياسي والاجتماعي للقمع والتجاهل من مختلف القوى التي صعدت على مطالب التغيير ، وهو أمر عمل على تقويض ثقة الجيل السابق والحالي من الشباب في الاستمرار بالعمل السياسي او الاهتمام بالشأن العام.
وينعكس هذا الاحباط أيضا على تكون صعوبات يواجهها أفراد هذا الجيل في حياتهم الشخصية فيما بعد. فعندما ينغمس الفرد تماما في الساحة السياسية في فترة شبابه ومراهقته، قد يفقد لاحقا خلق التوازن اللازم بين حياته الشخصية واهتمامته السياسية في حالة انخرطه في أي عمل متصل بالسياسة ، و يمكن أن يتسبب ذلك في إهمال العلاقات الشخصية والعائلة بشكل كبير وفي الرغبة الدائمة بالعزلة بشكل عام.
والأكثر من ذلك انه قد يترتب على هذه المشكلة تأثيرات سلبية على المجتمع بأكمله. فعندما يشعر الأفراد الناشطون في الشأن العام بالإحباط واليأس، يفقدون بشكل كبير الثقة في السلطة والقوي السياسية والمؤسسات المدنية المختلفة ، وينغمسون في حالة من الانزواء، وبهذا تتراجع الرغبة في المشاركة السياسية والمدافعة عن القضايا الاجتماعية.
هنا لم تتوقف المشكلة عند الشباب اليمني فقط في تضاؤل رغبة الانخراط في العمل السياسي او تقلص الاهتمام بالشأن العام بل ان المشكلة تحولت الى أزمة ثقة بالقوى السياسية نفسها واتسعت دائرة ازمة الشباب مع القوى السياسية اكثر بعد ان اهملت الاحزاب السياسية اليمنية التي وصلت للسلطة في العام 2013 مطالب الشباب في تحسين اوضاع البلاد على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية ومحاربة مشكلة البطالة ,على عكس الوعود التي كانت تصرح بها ذات القوى والاحزاب السياسية أبان وقبل الثورة في اليمن .
ووفقا لمراقبين فقد تعاظمت أزمة الشباب مع القوى السياسية اليمنية بشكل كبير خاصة بعد توقيع معظم القوى السياسية اتفاق السلم والشراكة الذي فرضتها جماعة الحوثي عقب اسقاط الجماعة المسلحة للعاصمة صنعاء في العام 2014 ، وهو ما جعل العديد من التكتلات الشبابية الفاعلة في المشهد السياسي تخرج للشارع مجددا لرفض ما اقدمت عليه القوى السياسية من ما اسماه الشباب مباركة لمشروع الحوثيين في اسقاط الدولة في ذلك العام.
- الهدر وتشتت طاقات الشباب:
ان عملية الهدر الانساني في الوطن العربي تبدا من هدر الدم إلى هدر الوقت مرورا بهدر الفكر والوعي والإبداع، وقد يتخذ الهدر شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود لذلك يعتبر الهدر أكثر خطورة من القهر الاجتماعي[3]. ويمكن أن نسقط ذلك على عملية الاستقطاب التي تحركها المادة والنفوذ التنظيمي في اليمن. حيث كانت المنافسة بين جميع القوى السياسية والتيارات العقائدية وغيرها على جذب الفئات الشبابية والطلابية الفاعلة، أبان وبعد الربيع العربي، على أشدها.
ولأن الشباب كانوا ولا زالوا يواجهون تحديات اقتصادية واجتماعية جمة، أهمها البطالة وانعدام الفرص، فقد اندفع قطاعً كبير منهم إلى البحث عن حلول سريعة لمشاكلهم الشخصية والاقتصادية، وهنا استفادت القوى التقليدية من هذه الحاجة وذلك الاندفاع لاستقطاب طاقات الشباب أكثر ليكونوا بعد ذلك جزءا رئيسيا في معترك الأطراف المتصارعة سياسيا في البلاد، وأدى ذلك إلى تشتت القوى الشبابية الفاعلة وفقدان جذورها أكثر وضياع طموحات خلق الواقع السياسي والاجتماعي الجديد.
ويتمثل هذا الهدر في جعل الشباب يخوضون معارك عبثية في المجمل، من حيث سحب القيمة الوجودية من طاقتهم الفكرية وإفقادهم أولاً : الحق بتوفير التوازن الموضوعي. وثانيًا: إفقادهم القدرة على استيعاب المشهد السياسي الذي تعيشه البلاد بوضوح. هذا الهدر كان يظهر من خلال جعل العقل الشبابي يخوض معارك غير واضحة الأفق، هدر لا يقل من حيث السوء بحسب متخصصين في علم النفس والاجتماع عن ما تفعله الجماعات العقائدية العنيفة داخل المجتمع بعد استقطاب مقاتليها من داخله والزج بهم في جبهات الصراع المفتوحة التي لا يفقهون أبعادها الفعلية ولماذا يقاتلون فيها من الأصل.
وأكثر ما يمكن ملاحظته من كارثية استمرار عملية الهدر الوجودي لطاقات الشباب يتلخص في استنزاف قدراتهم وتوجيهها نحو طريق واحد أو تدجينهم لتبني وجهة نظر محددة الأطر. وهذا التدجين يمنع الشباب من تحقيق التأثير الفعّال في محيطهم، علاوة على جعلهم يتعصبون ويتبعون وجهات نظر ضيقة الأفق بالإضافة إلى أنه يقودهم للمشاركة في صراعات ومعارك كلامية سياسية وفكرية يومية غير مجدية في صفحات التواصل الاجتماعي بدلاً من تأهيلهم علمياً ومعرفياً وتطوير مهاراتهم المتعددة والمختلفة.
ختاماً؛ يمكن القول إن الاشكاليات السياسية والاجتماعية المتعددة الناتجة عن الصراع المسلح في اليمن، وتعثر آمل التغيير واتساع دائرة البطالة وانعدام فرص التأهيل والتطوير, جميعها أسباب جعلت الشباب في البلاد يعيشون في حلقة متسعة من الازمات النفسية الناتجة عن عدم القدرة على تغيير واقعهم منذ العام 2011 كما كانوا يأملون. لهذا فإن استمرار اهمال القوى الشبابية من قبل السلطات والقوى الفاعلة سياسيًا واسقاطها في نمطية الكسب السياسي فقط سيكون له تأثيرا سلبيا في المستقبل، حيث لن يقتصر هذا الثمن على خسارة ثقة و طاقات الشباب فحسب، بل سينعكس أيضًا على حالة تسطيح الوعي وفقدان هذه الفئة الهامة في المجتمع قدرتها على البحث والمعرفة و التمييز و استيعاب المتغيرات وبالتالي تحولها للقمة سهلة للجماعات المسلحة واتساع مشكلة استخدام الشباب كوقود في الحروب التي تخوضها الجماعات العقائدية العنيفة في البلاد منذ سنوات.
ومن المتصور أن هناك عدد من المقترحات لمعالجة هذه المشكلة ومنها على سبيل المثال لا الحصر
* العمل على تعزيز التواصل مع الشباب واشراكهم في صنع القرار بشكل حقيقي وجعلهم يساهمون فعلا في عملية إدارة الحياة السياسية داخل البلاد وهذا الدور يقع على عاتق السلطة الشرعية والقوى السياسية المتعددة.
* محاربة البطالة وخلق فرص عمل وتأهيل ملائمة للشباب من خلال قوانين تلزم المؤسسات والشركات المختلفة بتوظيف الشباب بالاضافة الى تحسين ظروف العمل وتأهيلهم لاستخدام اداوات التكنولوجيا الحديثة والمهارات اللازمة وذلك للحصول على وظائف جيدة في مختلف مؤسسات الدولة او الشركات العامة والخاصة.
* تطوير العملية التعليمة في البلاد و زيادة فرص التدريب المؤهل وذلك عبر تحسين المنهاج ورفع جودة التعليم في المدارس والجامعات من أجل أن يتمكنوا كشباب مؤهل من التعامل بشكل جيد مع تحديات ومتطلبات سوق العمل.
* توفير الدعم النفسي والاجتماعي للشباب وزيادة رفع الوعي بالصحة النفسية خاصة مع الشباب الكثر الذين يعانون من أزمات نفسية نتيجة ضياع الطموحات واتساع رقعة الصراع المسلح والبطالة في البلاد .
* مكافحة العنف والتطرف عبر التثقيف ورفع الوعي والمعرفة بين فئات الشباب حول قضايا البلاد ومخاطر الالتحاق بصفوف الجماعات والفصائل العقائدية المسلحة .
*دعم العمل الحقوقي والجهود الإنسانية مع المنظمات الدولية لتوفير المساعدات والدعم الكافي للشباب والأسر اليمنية الكثيرة التي تضررت جراء الصراع والحرب القائمة منذ سنوات في البلاد.