فهمي محمد
مسؤول الدايرة السياسيه فرع الحزب الاشتراكي تعز
قبل أسبوع، شهد المشهد السياسي والعسكري في جنوب اليمن تطوراً مفاجئاً، تمثَّل في زحف قوات الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً على حضرموت والمهرة، وتسلُّم معسكرات الفرقة الأولى وعتادها دون مواجهة تُذكر من الحلف القبلي المحلي الذي كان قد أعلن جاهزيته للدفاع عن حضرموت. بدا الأمر للعديد من المراقبين وكأنه جزء من تنسيق سعودي-إماراتي لترسيخ واقع الانفصال.
مع اليوم التالي للأحداث، تبنت الرياض موقفاً حازماً وصلباً رافضاً لما حدث ووصفه بالانقلاب على الشرعية اليمنية. تجلّى ذلك في خطوات عملية: الرفض الواضح للتطورات، ونقل قوات "درع الوطن" وإعادة تموضعها شرقاً، ودعمها الفعلي لرئيس مجلس القيادة الرئاسي، الدكتور رشاد العليمي، الذي أطلق من أراضيها تصريحات وصف فيها الأحداث بأنها "عمل مرفوض تماماً وانقلاب يصب في مصالح الحوثيين". كما أن اللقاءات الدبلوماسية المكثفة التي عقدها العليمي داخل السعودية مع سفراء الدول الكبرى الداعمة للشرعية، وزيارة الوفد السعودي رفيع المستوى إلى حضرموت لتأكيد رفض المملكة القاطع والمطالبة بخروج قوات الانتقالي، كانت جميعها إشارات لا لبس فيها على تبني الرياض لخط سياسي وعسكري واضح.
بلغ التصعيد ذروته مع خطاب صريح لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، وضع فيه النقاط على الحروف برفضه لتحركات الانتقالي، حيث وصف فعل الانتقالي في الاجتماع الدورة التاسعة لمجلس الشورى السعودي بالقول: "إن ما قام به المجلس الانتقالي من السيطرة على حضرموت والمهرة يُعد انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة اليمنية وتهديداً مباشراً لوحدتها، ولا يختلف عن انقلاب الحوثي الذي خرجنا جميعاً لقتاله. المملكة تدين وترفض رفضاً قاطعاً مشروع التقسيم بالقوة، وتدعو على الفور إلى سحب قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة وتسليم المواقع لدرع الوطن"، وحذَّر بعدم السماح بتنفيذ مشروع التحالف مع الخارج. هذا الموقف السعودي الحازم، المُستند إلى الإدراك الاستراتيجي للأهمية الجيوسياسية الفائقة لحضرموت والمهرة لأمن المملكة، أدى إلى تحول ملحوظ في خطاب الانتقالي، فبدا هذا الأخير كمن يحاول تبرير خطواته تحت عناوين واسعة كـ"قطع خطوط تهريب السلاح للحوثيين" و"إنهاء زمن المعارك الجانبية"، في حركة يُحتمل أن تكون تمهيداً لتراجع تكتيكي من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي.
هذه التبريرات هي في الواقع انعكاس لنجاح الدبلوماسية السعودية في تصوير الأحداث على أنه انقلاب على الشرعية اليمنية وليس خطوة تصحيحية في مسار القضية الجنوبية، لاسيما مع اعتراف الشرعية والسعودية بعدالة القضية الجنوبية. ويبدو أن هذا الرفض السعودي القاطع لم يكن مُدرجاً في حسابات الانتقالي، مما دفعه إلى تعديل خطابه.
قد يُثار تساؤل يقول: إذا كان الموقف السعودي رافضاً منذ البداية، فكيف سُمح للانتقالي بالتحرك؟ التحليل المتأني يشير إلى أن التخلص من الفرقة الأولى، ربما كان ذلك بالنسبة للسعودية حدثاً تكتنفه مقولة "لم آمر به، ولكن لم يسؤني حدوثه"، مع رفض الطريقة الانقلابية.
استمرار هذا الضغط السعودي الصارم سيفرض على الانتقالي تراجعاً في حضرموت والمهرة، وهو ما يحمل تداعيات كبرى وإيجابية على كل الأصعدة:
1. تعزيز الشرعية اليمنية: ستعود سلطة الرئيس العليمي إلى عدن أقوى، ومدعومة بشرعية دولية وإقليمية متجددة. ما حدث جعل السعودية والمجتمع الدولي في حاجة ماسة إلى وجود سلطة شرعية قوية في اليمن.
2. ضرورة استغلال الفرصة: على الشرعية أن تستغل هذه الفرصة لتصحيح أوضاعها الداخلية سياسياً واقتصادياً، والأهم، لإحياء دورها الوطني الحقيقي في مواجهة انقلاب الحوثيين في صنعاء. في إحدى اللقاءات التي حضرتها شخصياً مع أحد أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، وبخصوص رده عن سؤال أحداث حضرموت، أجاب بعد أن نظر إلى قارورة الماء بجواره فمسكها وقال: "إذا ظلت هذه القارورة فارغة سوف يأتي من يملؤها"، وهذا يعني أن هناك فراغاً يجب أن لا يستمر داخل الشرعية وإلا ملأه الآخرون.
3. إعادة تشكيل خيارات الانتقالي: يجب على الانتقالي إدراك أن التراجع ليس هزيمة، بل توسيع للإدراك السياسي. انتصار القضية الجنوبية، سواء عبر انفصال أو فدرالية، لن يتحقق بالقوة العسكرية وفرض الأمر الواقع. إنه قرار استراتيجي يحتاج توافقاً وطنياً جنوبياً وإقليمياً ودولياً، وشرطه الأساسي وجود دولة يمنية مستقرة. تحقيق ذلك يمر عبر هزيمة انقلاب الحوثي في الشمال.
4. التوازن الإقليمي: يجب على الانتقالي أن يفهم أن أي حل للقضية الجنوبية لا يمكن أن يتحقق بدعم إماراتي أحادي الجانب بعيداً عن حضور السعودية، القوة الإقليمية الأكثر تأثيراً وجواراً. تجاهل هذه المعادلة قد يفتح الباب ليس لمطالب انفصال الجنوب فحسب، بل لمطالب محلية أوسع داخل حضرموت والمهرة نفسها.
صحيح أن أزمة حضرموت والمهرة كشفت عن حدود المناورات العسكرية الأحادية في بيئة معقدة مثل اليمن. لكن السعودية نجحت حتى الآن في إعادة رسم الخطوط الحمراء والتأكيد على أولوية معركة الشرعية مع الحركة الحوثية.
للانتقالي كامل الحق في تأسيس وجوده السياسي على دعائم القضية الجنوبية التي تستمد عدالتها من نتائج حرب صيف 1994م، ولكن مع بروز الموقف السعودي وتصلبه في دعم مسار الشرعية اليمنية في هذه المرحلة. يجب على الانتقالي أن يدرك أن تحقيق مصلحة الجنوبيين سيظل مرتبطاً جوهرياً بوجود شمال وجنوب مستقرين تحت راية الدولة اليمنية وخاليين في نفس الوقت من أي تهديد للمملكة العربية السعودية، وهذا يقتضي في المقام الأول تحمُّل الانتقالي إلى جانب سلطة الشرعية مسؤولية القضاء على انقلاب الحركة الحوثية في صنعاء وإعادة اليمن إلى وضعها الطبيعي، بمعنى آخر: فك ارتباط الشمال عن دولة إيران، وفك ارتباط الجنوب عن دولة الإمارات، ومن ثم تقرير المصير بالنسبة لفك ارتباط جنوب اليمن عن شماله.
الخلاصة: إذا كان ولا بد من تقرير مصير جنوب اليمن، فإن اليمن بشكل عام تتطلب في المقام الأول "فك ارتباط ثلاثي الأبعاد"، وهي هنا ليست اختيارًا تكتيكيًّا، بل شرطًا استراتيجيًّا لأي حل دائم. فلا يمكن بناء سلام في اليمن بينما تظل ميليشيات الحوثي أداة طيّعة في يد طهران لزعزعة المنطقة من شمال اليمن، ولا يمكن تحقيق تسوية سياسية عادلة للقضية الجنوبية في ظل مشاريع خارجية متصارعة تجعل من الجنوب ساحة للتنافس على حساب مصالح الجنوبيين أنفسهم.
الموقف السعودي الأخير،برفضه القاطع للانقلابين: انقلاب الحوثي في الشمال، وانقلاب الانتقالي في الجنوب الشرقي، يؤسس لمبدأ مركزيّة الشرعية اليمنية: وهذا يعني قطعًا أن الطريق إلى حل أزمات اليمن، بما فيها القضية الجنوبية، يمر عبر إعادة بناء الدولة اليمنية الشرعية القادرة على فرض سيادتها والتفاوض باسم جميع أبنائها. وهذا يستلزم إخراج اليمن ككل من دائرة الصراع بالوكالة.










