قراءة تحليلية في مفارقة المجلس الانتقالي الجنوبي والحركة الحوثية في الشمال

كانون1/ديسمبر 16, 2025

بدون أدنى شك، يدرك المجلس الانتقالي الجنوبي تماماً أن قرار إعلان انفصال الجنوب واستعادة دولته ليس مجرد خطوة سياسية تعتمد على السيطرة العسكرية في المحافظات الجنوبية فحسب، بل هو قرار مصيري استراتيجي شديد التعقيد، يرتبط بتوافر شروط موضوعية ناضجة داخلياً وإقليمياً ودولياً.

فهمي محمد - سكرتير الدائرة السياسية في الحزب الاشتراكي بتعز

فلا تكفي السيطرة على الأرض، بل يجب توافر الجاهزية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الخدمية، لضمان قدرة الكيان الجديد على البقاء وعلى تحمل تبعات السيادة الوطنية وسلطة الدولة الحاكمة منذ اليوم الأول. فمع إعلان قيام دولة الجنوب، سيتحول الانتقالي من فصيل سياسي يحمل قضية إلى سلطة دولة كاملة المسؤولية تجاه المواطنين، أتحدث عن الأمن والاستقرار والتنمية.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر، إذا كان المجلس الانتقالي، رغم سيطرته الفعلية على معظم الجنوب، لا يزال يطالب حكومة الشرعية اليمنية بالوفاء بالتزاماتها الخدمية والمالية تجاه المواطنين، ابتداءً بالخدمات وانتهاءً بصرف المرتبات، فهذا يعني بالمفهوم السياسي الحالي أن الانتقالي الجنوبي يحكم دون أن يتحمل كامل المسؤولية، تاركاً عبئها القانوني والفعلي على عاتق سلطة الشرعية. وهذه الأخيرة نفسها عاجزة عن الوفاء بهذه الالتزامات دون دعم إقليمي ودولي، تقوده المملكة العربية السعودية التي لا تزال تلتزم علناً بوحدة اليمن ودعم حكومة الشرعية.

على الصعيد الدولي، لم يحقق المجلس الانتقالي الجنوبي اختراقاً يغير قناعة القوى العظمى وحتى الإقليمية بمسألة تقسيم اليمن إلى دولتين. وحدها دولة الإمارات الداعمة للمجلس الانتقالي في مسألة استعادة الدولة الجنوبية، لكنها تبقى حذرة وغير جاهزة للترجمة إلى خطاب سياسي رسمي يتبنى الانفصال في اليمن. كل هذه المعطيات ترسم صورة واضحة أمام قادة الانتقالي: بأن إعلان قيام الدولة الجنوبية، بناءً على الظروف الحالية، يبقى في أعلى درجات الخطورة وأدنى مستويات الحكمة.

أضف إلى ذلك خطورة المشهد الإقليمي والدولي المتأثر حتى الآن بتصعيد الحوثيين في البحر الأحمر، وهو المشهد الذي حوّل الحركة الحوثية إلى تهديد مباشر ومستمر للمصالح الإقليمية والدولية.

في هذا السياق، فإن تقسيم اليمن الآن سيعني، من وجهة نظر تلك الدول، تقليصاً خطيراً للمساحة السياسية والعسكرية والبشرية المتاحة في اليمن لمواجهة الحوثيين في الداخل، وسيكون ذلك على حساب قوة الشرعية اليمنية. بمعنى آخر، ستنتقل معركة الشرعية اليمنية في مواجهة انقلاب الحركة الحوثية من فضاء الجمهورية اليمنية إلى فضاء سياسي محدود في الشمال، بينما يسيطر الحوثيون على السواد الأعظم من سكانه وجغرافيته، إذا ما استثنينا المناطق الخاضعة للشرعية في تعز والحديدة ومأرب والجوف، مما يعني عملياً تكريس سيطرة هذه المليشيا وتشكيل دولة مذهبية جهوية في شمال اليمن، لكن قرارها السياسي في طهران. على هذا الأساس، فإن الحوثيين أنفسهم يترقبون بفارغ الصبر إعلان دولة جنوبية معترف بها، كي يتحرروا من ثقل اليمن الكبير ويكرسوا انفصالهم هم أيضاً بما يتلاءم مع سلطتهم السياسية الجهوية المذهبية.

السؤال المطروح بناءً على ذلك يقول: لماذا يقدم الانتقالي على تصعيد عسكري لاستكمال السيطرة على المحافظات الجنوبية، ويدخل في معارك إقليمية معقّدة، إذا كان يدرك أن الإعلان عن الدولة الجنوبية غير ممكن حالياً؟

الحقيقة أن الانتقالي، بإدراكه لكل هذه التعقيدات، لن يعلن فك الارتباط الآن، حتى مع ضغوط الشارع الجنوبي المناصر له في إعلان فك الارتباط. ولكنه في المقابل، بزحفه السياسي والعسكري، يخلق وقائع جديدة على الأرض. الهدف هو ترسيخ سيطرة كاملة وخلق حيثيات سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية، تمهّد لإعلان قيام الدولة الجنوبية في الوقت المناسب، وليس غداً.
قد يناور ويقايض بخصوص توقيت الإعلان،مقابل الحفاظ على مكتسباته السياسية والعسكرية، خاصة في حضرموت والمهرة. المهم لديه الآن هو السيطرة الكاملة على الجنوب في ظل محددين سياسيين وعسكريين: الأول: التخلص من أي وجود عسكري شمالي، ليس لأن هذه القوى إخوانية أو مخترقة من قبل مليشيات الحوثي، بل لكونها شمالية الانتماء، والثاني: العمل على إضعاف حكومة الشرعية اليمنية. هذان العاملان كفيلان بخلق واقع "دولة الجنوب" فعلياً، في المحافظات الجنوبية، حتى قبل إعلانها رسمياً.

صحيح أن إشكالية الوقت تبقى حاسمة في هذه المعادلة، لاسيما إذا ما ارتبط الوقت بحدوث متغيرات سياسية في الشمال. فمن منظور المجلس الانتقالي، عامل الوقت سلاح ذو حدين. فهو ضروري الآن لترسيخ السيطرة الكاملة على الجنوب، لكنه في المقابل يرغب فعلياً في أن تتجمد عقارب الساعة وحتى الأحداث في الشمال. فمسألة تحرير العاصمة صنعاء وإسقاط الحوثيين – ليست من أولويات الانتقالي الحقيقية، حتى وإن رفع مثل هذه الشعارات وخاطب الداخل والخارج بقوله إن الوقت حان للتوجه نحو صنعاء.

فالانتقالي يدرك في حساباته السياسية (وهذه معلومة وليس تحليلاً سياسياً) أن تحرير صنعاء في الوقت الحاضر لن يصب في مصلحته المتعلقة بقيام دولة الجنوب؛ لأن تحرير صنعاء سيعيد السلطة الفعلية والقوية لحكومة الشرعية اليمنية، بجيشها وشعبها وكثافة السكان المؤيدين لها في الشمال والجنوب أيضاً، بمعنى آخر تتحول الشرعية اليمنية من سلطة مقاومة للحركة الحوثية إلى دولة حاكمة في صنعاء تحت مظلة الجمهورية اليمنية.

حينها سيتعامل المجتمع الدولي مع صنعاء باعتبارها دولة شرعية حاكمة وفاعلة على الأرض وسيختفي تعامله مع سلطة الأمر الواقع في اليمن، وستتعقد عملية الانفصال أو إعلان قيام دولة الجنوب إلى درجة كبيرة. حتى مع التسليم بحق تقرير المصير، فإن نتائج الاستفتاء التي يرغب بها الانتقالي قد لا تكون مضمونة في ظل التباينات السياسية في الجنوب التي سوف تعزز خيار دولة اليمن الاتحادية في حال التخلص من سلطة الحركة الحوثية في شمال اليمن.
صحيح أن المجلس الانتقالي في كل الأحوال سيظل هو الحامل السياسي للقضية الجنوبية،وعلى هذا الأساس، إذ كانت سلطته السياسية ووجوده العسكري لا تحظيان الآن بإجماع شعبي في كامل الجنوب، فإن تجميد عقارب الساعة سياسياً في صنعاء واستمرار زمن الحركة الحوثية في حكم شمال اليمن دون مقامة حقيقة سيجعل الانتقالي هو الخيار الأفضل بالنسبة للجنوبيين جميعاً أو بالنسبة لسواد الأعظم منهم. فالشمال القابع تحت مشروع الحركة الحوثية وتحت سلطتها السياسية هو الشمال المرفوض قطعاً وفق كل الخيارات الجنوبية، وهو القطيعة الحقيقية مع مستقبل الوحدة اليمنية، ليس فقط وفق حسابات الانتقالي، بل وفق حسابات الحركة الحوثية نفسها التي تتقاطع حساباتها السياسية مع تطلعات الانتقالي. وهذا لا يعني وجود تناغم سياسي متبادل بين الانتقالي الجنوبي والحركة الحوثية في الشمال، بل إن حسابات المصالح السياسية وضعت هذا التقارب في الرؤى بين الطرفين الاعدا في الواقع.

فالحركة الحوثية، بناءً على هذه المفارقة العجيبة، ترى مثل الانتقالي أن مصلحتها تكمن في بقاء الشرعية اليمنية سلطة ضعيفة ومقسمة في نفس الوقت، ولا تتحول سلطتها السياسية إلى دولة حاكمة في الجنوب وفي المناطق المحررة في الشمال، بل على العكس من ذلك، مصلحة الحركة الحوثية تكمن في تحويل الانتقالي إلى دولة معترف بها في الجنوب. ومن ثم سوف تذهب الحركة إلى حرب عسكرية ليس ضد الانتقالي داخل اليمن، بل ضد السعودية والإمارات: حرب تفاوضية جديدة تهدف إلى الاعتراف بسلطتها السياسية على ما تسيطر عليه في الشمال، مقابل التخلي عن الشرعية وترك الجنوب لدولته المستقلة، مما يضمن بقاء السلطة الحوثية على الشمال، وهذا أفضل خيارات الحركة الحوثية في ظل استحالة قدرتها السياسية والعسكرية على ابتلاع اليمن الموحد وحكم الشعب اليمني في الشمال والجنوب.

ختاماً: يبدو المستقبل القريب حبيس معادلة معقدة من الانتظار والترقب. فالمجلس الانتقالي، بخطواته الحثيثة نحو فرض سيطرة فعلية شاملة، يعمل في الحقيقة على تجسيد "دولة عميقة" في الجنوب اليمني تمتلك كل مقومات السيطرة عدا الاعتراف والشكل الرسمي. هذا المشروع التراكمي وفق نتائج زحفه يهدف إلى جعل إعلان الدولة الجنوبية في نهاية المطاف مجرد ختم ليس على الورق بل على واقع قائم في المحافظات الجنوبية.

وبالتالي، فإن الصراع في اليمن اليوم لم يعد مجرد حرب بين شرعية وإنقلاب فقط، بل تحول إلى سباق زمني خفي بين مشروعين انفصاليين: جنوبي جهوي وشمالي مذهبي، كل منهما يسعى إلى تعزيز واقع التقسيم الحالي لليمن وانتزاع اعتراف العالم به سياسياً، بينما تحاول القوى الداعمة للوحدة، وإن من منظور مصالحها، الحفاظ على هيكل الشرعية اليمنية بقيادة الدكتور رشاد العلمي ولو بشكلها الأضعف. وستكون نتيجة هذا السباق محكومة ليس فقط بقوة السلاح على الأرض، بل وبقدرة كل طرف على تحويل وقائعه الميدانية إلى واقع سياسي ودولي دائم، وقدرته على تحمل الأعباء الهائلة التي ستلي أي إعلان رسمي في الوقت المناسب.

Additional Info

  • المصدر: تعز تايم - فهمي محمد المسؤول السياسي في الحزب الاشتراكي بتعز
Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro