فعندما زار ضابط بريطاني شيخا قبليا يمنيا من نفس محافظة بن عديو (شبوة المحاذية لمأرب)،إبان فترة الاحتلال الإنجليزي لجنوب اليمن، فاجأه ذلك الشيخ بطلب غريب، وهو أن عليه إصلاح بئر ماء يخص القبيلة، تم ردمه من قبل الحملة الرومانية على اليمن بقيادة أليوس جاليوس، قبل ألفين عام تقريبا، فقد تعامل الشيخ مع الضابط الإنجليزي باعتباره مسؤولا عن ممارسات من يعتقد أنهم أجداده الرومان.
إن حساسية اليمنيين أمام أي تدخل أجنبي في بلدهم مرتفعة للغاية – ربما باستثناء الطبقة السياسية -، وعندما جاء الجيش المصري لدعم ثورة اليمنيين ضد الأئمة في ستينيات القرن الماضي، لم يشفع له ذلك للتغطية على أخطاء بعض عناصره التي دفعت قبائل يمنية للانضمام لجيوش الإمام ضد المصريين، رغم عدائهم التقليدي للأئمة، كما فعل الشيخ الغادر عندما اشترط خروج المصريين من اليمن ليدعم الجمهورية الوليدة يومها.
أمام هذه المعطيات، يفتقد التدخل السعودي السافر في اليمن الذكاء والحساسية الكافيين لضمان عدم تحويل اليمنيين إلى خصوم للرياض، بل ويتمتع باللاحساسية كموهبة ملازمة له منذ عقود، استهدف خلالها إما رموز اليمنيين أو مصالحهم. ومن يستهدف هذه الدائرة الخاصة بالآخرين (المشاعر والمصالح)، يكون بلا شك أذكى من يخلق أعداءه من العدم، ففي الوقت الذي أعلنت فيه الرياض حربها ضد الحوثيين دعما لهادي، أهدت الحوثيين أقوى كروتهم في مواجهة خصومهم، لتمنحهم جرعات متوالية لرفع قيمة هذا الكرت بتصرفاتها المضادة للسيادة اليمنية من المهرة إلى سقطرى إلى شبوة مؤخرا.
يختلف المشهد والممثل والممثل به، لكن المخرج هو نفسه: خارج يريد يمنا على هواه، بلا سيادة وبلا فكرة. وهذا هو ما تجسد عمليا مؤخرا بفرض إقالة بن عديو من منصبه كمحافظ لشبوة من قبل دولة أخرى، بغض النظر عن شخصية الرجل البغيضة أو كفاءته لشغل منصبه، أو حتى عند مقارنته بخلفه المفروض إماراتيا، ورغم ما أحدثه من تنمية محلية نسبية. وهذا الدور إضافة إلى مطالبته بخروج الإمارات من بلحاف، كان سببا جوهريا لإقالته، رغم انسجام الموقفين مع رغبة هادي كرئيس للبلاد، الذي لا يستطيع الدفاع عن رجاله، بل يضحي بهم باستمرار، لأنهم تصدوا للدور السيادي المفترض أنه من مسؤولياته المباشرة كرئيس للبلد.
مطلع سبعينيات القرن الماضي خلال رئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني، بعث مستشار الملك فيصل إلى الإرياني برسالة تطالبه بإقالة محسن العيني من رئاسة الحكومة، وتكليف عبدالله الحجري خلفا له، فأذعن الإرياني على مضض لذلك الطلب/الأمر الذي لم يكن معروفا لليمنيين يومها، لكنه عندما مارس الحجري سياسات تناقض موقفه وموقف اليمنيين وتتماهى مع رغبات الرياض بشأن حدود البلدين/اتفاقية الطائف، قام بإقالته فورا، وبذكائه المعروف (الذي يفتقر إليه هادي كليا)، كلف بدلا عنه حسن مكي بتشكيل حكومة جديدة، في رسالة مبطنة للرياض دفع منصبه ثمنا لها، حيث ينحدر مكي من منطقة صبيا الواقعة حاليا ضمن الأراضي السعودية بموجب اتفاقية الطائف التي أراد الحجري إقرارها بشكل نهائي حينها.
ورغم دعم الرياض للإطاحة بنظام القاضي الإرياني وصعود إبراهيم الحمدي خلفا له، فعندما حاد الحمدي عن خط الرياض تعرض للاغتيال، لكنه أصبح الزعيم اليمني الأكثر شعبية حتى اليوم لأنه وقف ضد الرياض والقوى اليمنية الموالية لها، وحاول تأسيس دولة يمنية قوية ومستقلة القرار. وقد تمت تصفية الحمدي الحرفية وبن عديو السياسية بأدوات متشابهة: ألصقت بالأول مومستين فرنسيتين وتم تصفية الثاني بقرار جمهوري من فندق في الرياض.
كانت اليمن، ولو ظاهريا، قد قطعت شوطا في خلق مظاهر السيادة اليمنية دون اختراقات خارجية واضحة كما يحدث اليوم، حيث كانت الرياض تحقق رغباتها عبر حلفائها القبليين والعسكريين والسياسيين وأموال اللجنة السعودية الخاصة باليمن، لكن البلد الذي يخوض حربا لها رعاة خارجيون يفقد حتى استقلاله الظاهري، ليقع تحت وصاية السعودية والإمارات جنوبا، وإيران شمالا، أمام شخصيات سياسية يمنية عارية من كل ارتداه الإرياني والحمدي والعيني وغيرهم.
بمن سيتغطى اليمن إن كانت قيادته عارية، وحلفاؤه يعتبرون عريها أداتهم الرئيسية، وقواه السياسية تتنازع ورقة التوت الإقليمية، لتكتشف أنها ورقة شفافة لا تغطي شيئا من عورتها، بقدر ما تشهر بها وتكشفها عند الحاجة بوقاحة تاجر رقيق في سوق عكاظ وخاصة في اللحظة اللئيمة للغاية التي كانت فيها مأرب تتنفس برئة واحدة!