الفساد أكبر وأفدح مما كشفته التقارير وإرادة مكافحته رهن حسابات خاصة

كانون2/يناير 08, 2025

مقال رأي - عبدالعزيز المجيدي| إذا كانت تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الأخيرة قد فضحت شيئا، فإن ذلك الشيء المهم هو أن الفساد أكبر وأفدح من هذه القصاصات، وأن إرادة مكافحته رهن حسابات خاصة.

مع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية التقارير، التي أخرجتها الحكومة والمجلس الرئاسي، بعد مفاصلات، ويجب أن تتبعها خطوات أهم تتعلق بإحالة جميع المتورِّطين في جرائم نهب المال العام إلى القضاء.

بعد النشر المحدود لمضامين تقارير الجهاز في بعض الهيئات والمصالح والإدارات، يكاد يكون إجماع اليمنيين أن ما لم يُنشر أكثر ممّا نُشر بما لا يُقاس، وأن ما لم تتطرق إليه تقارير الجهاز المركزي، أو لم تقترب منه، أكثر من الكثير. هذا الأمر سيحتاج إلى نقاش أوسع.

لا ريب أن الحرب عطلت كثيرا من المؤسسات، بما فيها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة. لكنها في المقابل، فتحت الباب أمام فساد واسع النطاق بدون أيّ مساءلة.

هذه الاستباحة شجّعت مسؤولي شركة بترو مسيلة مثلاً لإنشاء شركات خارج البلاد بأسماء متعددة، ودون أي إثبات بأنها مملوكة للدولة.

وجود شركات غير معلومة في جزر الباهاما المعروفة بأنها ملاذ للمتهربين من الضرائب في العالم دليل على أن المسؤولين عن الشركة ذهبوا بعيداً في تملكها!

الحرب -على ما يبدو- لم تكن هي السبب الوحيد، فقد كان هناك ما يشبه الإرادة في عدم تمكين الجهاز في ممارسة وظائفه، وهي امتداد لإرادة نظام صالح، الذي استخدم الجهاز واجهة لجمع التقارير عن مساعديه، والاحتفاظ بها في الأدراج دون محاسبة.

تقارير الجهاز المركزي الأخيرة، في ما يخص جزئية أنشطة شركة بترو مسيلة، تؤكد أن برامج وأعمال وموازنات الشركة محجوبة عن الجهات الحكومية المسؤولة عنها مباشرة؛ مثل وزارة النفط، وهيئة الاستكشاف النفطي، منذ ما قبل الحرب بسنوات!

ذلك يعني أن الجهاز نفسه أيضاً لم يمارس أي شكل من أشكال الرقابة على حسابات هذه الشركة الحكومية طيلة هذه الفترة!

يمنح القانون الخاص بالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة -رقم 93- لسنة 1992، الجهاز سلطة رقابية؛ بحيث تجعله مهيمناً على كافة تفاصيل الجهاز الإداري الحكومي من أصغر إدارة إلى الوحدات الاقتصادية، وحتى المجالس المحلية في المحافظات، وكل ممتلكات الدولة.

صلاحيات الجهاز تتركز في ثلاث نقاط رئيسية: الرقابة المالية من خلال إجراء المتابعات المحاسبية والمالية، الرقابة على أداء الأجهزة الحكومية، وتنفيذ الخطط، بالإضافة إلى ممارسة الرقابة القانونية من خلال تقييم الأوضاع القانونية والتنظيمية لهذه القطاعات، ومدى التزامها بالقوانين.

على الرغم من التقييمات الدولية لليمن كواحدة من أبرز الحكومات التي حافظت على موقع بارز في مؤشرات الفساد عالمياً في عهد نظام علي عبدالله صالح، لم يعرف عن سلطته أنها حاسبت فاسداً واحداً، وكان الحساب يتم بطريقة أخرى: مناقلة المسؤول الفاسد من وظيفة إلى أخرى، أو إرساله للعمل سفيراً!

هذا المبدأ جرى ترسيخه بعد 2011 بمشاركته في السلطة، ثم صار نهجاً متغلغلاً ومهيمناً بعده.

عملياً، ألقت الحرب بظلالها على كفاءة الجهاز، ومع حالة الانقسام وتوزّع موظفيه وقياداته بين مليشيا الحوثي والشرعية، التي قادت إلى تعطيله بصورة شبه تامة، صارت المؤسسات الحكومية عبارة عن ممتلكات للمسؤولين فيها، ومن يحيمهم في الأعلى!

خذ مثلاُ: عند ما تجبي قنصلية واحدة، كما حصل في جدة، قرابة 157 مليون ريال سعودي عن رسوم إصدار جوازات، ثم لا يتجاوز ما ورّدته إلى الخزينة العامة 12 مليوناً من إجمالي المبلغ، فنحن أمام حالة استيلاء تام على جهاز إداري تابع للبلد!

لو كان المبلغ المورّد مجرد ضرائب دخل لصاحب القنصلية، ومن يعمل لصالحه، لكان أكبر بكثير!

هذا مثل واحد فقط أشبه بشعرة في محيط من الفساد، أما القطاعات النفطية، كما هو حاصل في شركة بترو مسيلة، والاتصالات، ومشروع الفساد الكبير، الذي يمرر تحت لافتة شراء الطاقة، فإنها جزء من سياق منسق ومحمٍ بالكامل.

بعض ما أوردته تقارير الجهاز، التي مازالت محظورة عن النشر، كانت قد كشفت عنه لجنة برلمانية قبل أكثر من عام، وقدمته في تقرير إلى مجلس القيادة الرئاسي بالتفصيل.

كان تقرير اللجنة قد أوصى بإيقاف صفقة بيع شركة الاتصالات؛ لأنها فاسدة، وكما لو كانت مجاناً، ثم أشارت إلى تواطؤ وزير سابق للاتصالات مع الحوثيين في منع استعادة أحد الكابلات البحرية الخاصة بالاتصالات.

لم يبدِ المجلس وقتها أي تحرّك، بل إن أول خطوة قامت بها الحكومة حينها تمزيق التقرير، ورفض الامتثال لتوصيات اللجنة وقررت بيع شركة الاتصالات!

إجمالاً، يبدو أن مجابهة الفساد لا تبدو جدية لسببين: الأول أن جهاز الرقابة المحاسبة لا يشرع في ممارسة سلطاته المخوَّلة قانوناً، فهو ينتظر إحالة بعض القضايا إليه، وهذا الأمر يخضع لحسابات خاصة، ظهرت جلياً في التقارير!

الأسوأ أن الجهاز، حتى عندما طلب منه التدقيق في قضية فساد مشروع كلية الطب المتعثر بجامعة تعز، البالغة أكثر من 20 مليون دولار، لم يتحرّك!

أما السبب الثاني فهو أن الإفراج عن التقارير لم يكن ناجماً عن رغبة محلية، بقدر ما كان تعبيراً عن "خناقة" وضغوط دولية!

لكن السؤال موجَّه لرئيس الحكومة ومجلس القيادة الرئاسي: هل هذه هي كل قضايا الفساد والتقارير، التي عمل عليها الجهاز منذ أكثر من 7 سنوات على استئناف عمله في عدن؟

أين التقارير عن بقية السفارات، مثلاً؟

ماذا عن الموانئ، وما يحدث في الجزر اليمنية من نهب واستحداثات؟

أين موقع الموانئ، التي تستخدم للتجارة واستيراد المشتقات النفطة بصورة خاصة لمصلحة تشكيلات مسلحة نافذة، وترفض إخضاعها للحكومة؟ وماذا عن الإتاوات والموارد، التي تُحصّل بعشرات المليارات لمصلحة تشكيلات أخرى؟

اين التقارير عن بقية المحافظات التي تحوّلت إلى إمبراطوريات خاصة لأصحابها؟

ما أُنجز -حتى الآن- جيِّد، رغم الظروف التي تحيط بهذه التحركات، ومحاولة تحويلها إلى حفلة، لكنها لن تكون محل ثقة ما لم يشاهد الناسُ المتورطين بتلك الجرائم المُعلن عنها رسمياً في المحاكم.

لن ينتظر الناسُ طويلاً للحكم على هذه الإجراءات، فالحبل أقصر مما يتوقعون، ولم يعد سوى الإعلان عن التالي.

يجب إعادة بعض الاعتبار لشعب كامل ظل يعاني، طيلة سنوات الحرب، من جرائم مليشيا الحوثي ولصوصيَّتها، بينما كان مَن يفترض أنهم مسؤولون عن حياته منشغلين بممارسة اللصوصية، وسرقة الرمق الأخير من روحه.

Additional Info

  • المصدر: تعز تايم
Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro