غير أن هذه الظاهرة تحمل في طياتها مفارقة عميقة؛ فتعز التي صمدت كمتنفس للسياسة والحزبية والتكتلات السياسية في زمن الحرب التي كانت تدار في شوارعها، وفي محيطها، تواجه اليوم تحولاً خطيراً في طبيعة صراعاتها السياسية التي تغلق أبواب السياسة، بحيث أصبحت فيه الاستفهامية الحقيقية موجهة نحو غياب الفكرة المدنية التي تؤمن بالآخر كضرورة وكوجود سياسي مشروع يختلف معك دون أن يكون عدواً وشرا مطلقاً في اجندتك الإعلامية.
لم تأتِ مكانة تعز السياسية ( كرافعة ) من فراغ، فتاريخياً شكلت هذه المدينة حاضنة للفكر والثقافة والسياسة، حتى في أحلك الظروف قتامة. وهي كذلك لم تكن بمنأى عن الحرب، بل كانت مسرحاً لأشرس المواجهات العسكرية مع المليشيات الانقلابية، لكن شيئاً ما في نسيجها الاجتماعي وعقلها الجمعي مكنها من الحفاظ على دور السياسة وحضورها الفاعل في مجالها العام. هذا الاستمرار في ممارسة الفعل السياسي الحزبي، يشير إلى عمق التقاليد السياسية في هذه المدينة، لكنه أيضاً يضع أمام النخب السياسية مسؤولية تاريخية للحفاظ على هذه المكانة وتطويرها وهنا تكمن اليوم إشكالية تعز مع نخبها .
صحيح أينما توجد الأحزاب السياسية يوجد الصراع السياسي وهذا شئ طبيعي لان الأحزاب وجدت للتعبير عن التطلعات المختلفة للناس والتنافس على مقاليد السلطة لكن التحول الخطير الذي تشهده تعز اليوم يتمثل في تحول الصراع السياسي من تدافع أفكار ورؤى ومنافسة إلى صراع مشبع برغبة الاستئصال السياسي لوجود الآخر المختلف. لم يعد الأمر خلافاً حول الرؤى أو السياسات، أو نقد للهيمنة والاستحواذ بل تجاوز ذلك إلى إنكار حق الآخر في الوجود.
في قلب هذه الأزمة يطفو على السطح غياب الفكرة المدنية بمعناها العميق، الفكرة التي تقوم على الاعتراف بالآخر وبحقه في الوجود والاختلاف، لا كعدو يجب إلغاؤه، بل كشريك له تطلعاته في الوطن والواقع والمصير. الاستفهامية الحقيقية التي يجب أن توجه للنخب السياسية في تعز هي: أين الفكرة المدنية من كل هذا الصراع؟ ولماذا غابت ثقافة التعايش وقبول الآخر مع أن تعز ظلت نموذجاً للتمسك بالسياسة والفعل السياسي الحزبي في مواجهة الإنقلاب؟
الأحزاب السياسية في تعز، والتي كان لها الفضل في رسم وجه المدينة القائم والحفاظ على حرية الكلمة الناقدة، تواجه اليوم اختباراً حقيقياً في قدرتها على تجاوز منطق الصراع العقيم في تصوره الأحادي تجاه مسألة السلطة والسياسية، إلى منطق الدولة والمواطنة. فالصراع اليوم يدور على حساب الفكرة المدنية، ( دون أن تدرك قيادة الأحزاب ذلك ) بل ويغيبها لصالح منطق الإلغاء والإقصاء الذي يلغي وجود السياسية وثقافة المدينة برمتها. وهذا ما يكشف عن أزمة نخب سياسية لم تستطع بعد أن تنتقل من ثقافة الثورة إلى ثقافة الدولة.
تحتاج تعز اليوم إلى نخب سياسية ناضجة قادرة على الانتصار لتعز كنموذج للتعايش وقبول الآخر، نخب تدرك أن الاختلاف ليس عيباً يجب إزالته من داخل المجال السياسي العام، بل غنىً يجب الحفاظ عليه. النخب التي تحتاجها تعز هي تلك القادرة على تحويل التنوع إلى قوة، والخلاف إلى إثراء، والصراع إلى تنافس إيجابي يخدم الصالح العام. تعز التي حافظت على السياسة في زمن الحرب، قادرة على خلق نموذج للدولة في زمن السلام، لكن ذلك يحتاج إلى وعي عميق بالاستفهامية الحقيقية التي تواجه المشروع السياسي فيها.
السؤال الأهم الذي يواجه تعز اليوم هو: هل تستطيع نخبها السياسية تحويل الصراع من مواجهة وجودية ضد الآخر « كما يؤسس له البعض » إلى تدافع سياسي بين الأنا والآخر؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مصير تعز كنموذج فريد، وستكشف إن كانت ستظل المساحة الجغرافية المتبقية لممارسة السياسة بمعناها الحضاري، أم أنها ستسقط في دوامة الصراعات.
تعز التي قدمت نموذجاً فريداً في الحفاظ على الفعل السياسي في مواجهة الإنقلاب والحرب والدمار، مدعوة اليوم لتقديم نموذج أكثر نضجاً في إدارة الاختلاف والتعايش والصراع. فاستمرارها كمساحة للحرية والفعل السياسي مرهون بقدرة نخبها على تجاوز منطق الإقصاء إلى منطق المشاركة، وانتقالها من ثقافة الصراع إلى ثقافة التدافع السياسي الذي يحترم وجود الآخر ويقر بحقه في الوجود والاختلاف. فقط عندها ستستحق تعز القادرة على أن تكون النموذج الذي يخلق صورة الدولة المدنية القادرة على احتواء الجميع.










