تدرّج الدكتور رشاد العليمي في مناصب متتالية ضمن مساره المهني، وكان هذا المسار متصلاً على الدوام بالشأن الأمني.
الباحث مصطفى ناجي
إذا لم أكن قادراً، خشية أن أظهر مجاملاً، على الجزم بأن الدتور رشاد العليمي كان ناجحاً في كل المناصب التي تولاها، فإنني أستطيع الجزم بأنه لم يفشل.
ولا أُغالي إن قلت إن دافعين كانا وراء هذا المسار المهني الصاعد:
الأول هو الرغبة في النجاح لما لذلك من أثر على تقدير الذات والتقدير المكتسب، وهي من الخصائص الحميدة في الإنسان.
والثاني أن العمل في المجال الأمني يتسم نظرياً بخيرية عليا تتناسب مع النفس السديدة الميالة إلى الخير طالما كان مبتغى العمل الأمني هو تحقيق غاية إنسانية وشرعية، تتمثل في حفظ الناس من الناس، في أموالهم وحياتهم، وفي تحقيق الاستقرار والأمن.
وربما كانت هذه الفضيلة هي الدافع الأكبر الذي جعله يستمر ويتحمل المهام في بيئات إدارية مثقلة بالفساد والمحسوبية، وفي وظيفة عامة تنهشها قوى النفوذ.
لا تقتصر الأعمال الأمنية على مجرد حضور أمني بسيط لرجال ومؤسسات الضبط الشرطي والعدلي، بل قد تنتهي في بعض الأحيان باشتباكات أمنية تتخللها ضحايا، وقد يفقد ضابط الأمن رجاله أيضاً. غير أن الفضيلة العامة التي
تغطي المهام الأمنية نابعة من عقيدة مدنية تخفف من عبء الإحساس بالعدوانية والقوة القهرية وحقيقة القتل والإقتتال، طالما أن الطرف الآخر، مهما اقترف من أفعال، لا يُصنَّف عدواً كما هو الحال في المهام العسكرية، حيث يكون الآخر هدفاً أو عدواً، بينما يظل المجرم في المهام الأمنية، مهما كانت جريمته، مواطناً.
ولعله، في ما بلغه من عمر وما يقتضيه هذا العمر من وقفة مع الذات ونفس لوامة وإدراك لمعنى العنف، يجد نفسه متصالحاً مع ذاته؛ فيرغب حين يذهب إلى فراش نومه يجد نوماً هنيئا لا يشوبه احساس بالفجور والطغيان، وألا يشعر بأنه اخطأ في حق إنسان سلبه بالباطل، أو عن دم أُهدر ظلماً.
لكنه اليوم وجد نفسه في موقع لا يقتضي فقط تسيير شؤون البلاد بالمعنى الإداري البحت، وإنما يفرض عليه أيضاً خوض معارك. وحين أقول معارك، فإنها ليست معارك معنوية في ظل حالة احتقان، بل معارك حقيقية تسيل فيها الدماء، وتُزهق فيها الأرواح، تُرمّل فيها النساء يُيتم الأطفال.
وهو محاط بثُلّة ليست على ذات الخط من التدرج المهني في أغلبها، ولا تحمل الحس نفسه، بل إن بعضهم لا يتورع عن القتل وسفك الدماء من أجل بلوغ مآربه.
ربما كانت المهمة الأولى لهذا المجلس هي إحلال السلام في اليمن بما يتوافق بدرجة نسبية مع المرجعيات الأساسية. وكان الأهم أن تنتهي الحرب في اليمن، لكن ما حدث كان على العكس؛ إذ نشأت حروب متعددة داخل الحرب اليمنية الأولى، واتخذت عناوين شتى، ولم تكن من صميم المهمة التي أُنيطت بالمجلس.
وفي هذه اللحظة، لعل الرئيس يسائل نفسه: هل كُلِّفتُ بمثل هذه المعارك؟ ألمثل هذه الحروب حضرت؟
وإذا عدنا إلى الدوافع الأولى والحس العام الذي تشكّل داخله الرئيس رشاد العليمي، فإننا نفهم لماذا يعود في كل مرة إلى معادلة السلم والسلام، في محاولة لوقف شلالات الدم اليمني مقدماً تنازلات قاتلة ويتخاطب مع الجميع بلغة الأب أو الجد مراعيا فيهم العقل أو أمل أن يرعووا. وهذا لا يزيدهم إلا عتياً.
غير أننا أمام لحظات عصيبة تقتضي فعلاً، وتفرض خوض معركة، وعليه أن يزن ذلك بالدوافع التي حرّكت مساره المهني، وشكّلت هويته الخاصة.
وعليه أيضاً أن يدرك أن المهمة الراهنة، وهي المعركة التي يخوضها دفاعاً عن الدولة اليمنية، تندرج في صميم الفعل الأمني؛ لأن ما دون فرض الخضوع للقانون يعني استمرار الفوضى، وانعدام الأمان، وفتح الأبواب أمام كل أشكال الكراهية والقتل وسفك الدماء.
وعليه أن يستحضر تلك الدوافع وذلك الحس، وينطلق منهما لتأمين حق اليمنيين في دولة ووطن قوي، قادرين من خلاله على تحقيق السلام، بأي طريق كان؛ فبدون ذلك لن يكونوا في أمان.
إنها خيارات صعبة، وهي في جوهرها خيارات شخصية، لكنها بالغة الصعوبة لأنها، أولاً، تتعلق بحياة اليمنيين ومستقبلهم وحقهم في العيش الكريم، وحقهم في الحفاظ على كيان يؤمّن لهم الانتماء إلى هذه الأرض، والذي من دونه سيغدون غرباء في وطنهم أو "بدون" على أرضهم.
ومن ناحية أخرى، لأنها تتصل بتاريخه الشخصي وبالطريقة التي ستُكتب بها السطور الأخيرة من تاريخه المهني الناصع.
لا ينبغي له أن يتردد لحظة واحدة في الإقدام على هذه المعركة؛ فهي أشرف المعارك وأكثرها فضيلة، لأنها لا تعني فقط تثبيت الحضور الرمزي للدولة، بل تعني أيضاً درء مفاسد جسيمة؛ فالحياة تقتضي مواجهة الأشرار، والوظائف العليا ليست بمنأى عن ذلك.
ولا يليق برجل كان مساره المهني في تصاعد مستمر أن يُكتب عنه في صفحات التاريخ أنه أسهم في تفكيك البلاد، أو عجز عن حمايتها، وهو يمتلك الصلاحيات الدستورية والقانونية، وأدوات كثيرة لا يجوز له التأخر في استخدامها.
قد يبدو الدكتور رشاد وحيداً، لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ فما عليه إلا أن ينادي، وسيجد الناس من حوله. عليه أن يكون أول من يتقدّم، وأول من يرفع صوته دفاعاً عن الدولة، وسيرى الملايين من حوله يلتفون حول إرادته، لأنها في جوهرها تعبير عن إرادتهم.
لست بمقام من يقدم أمراً أو حتى مشورة بل إني أتحدث من باب التواصي وربما كوني بعيداً عن مسرح الأحداث أمتلك فسحة في الحديث والقول وتقديم الرأي. لذا فإني أرى أن عليه أن يتقدم الجميع وأن يتقدّم نفسه خطوة، عليه أن يتقدّم السعودية، وأن يتقدم دول إقليم وأن يتقدّم الأطراف اليمنية الأخرى خطوة وسيتبعونه في ذلك.
في مثل هذه اللحظات يُصنع الفارق، وتصنعه الكلمة الواحدة؛ إذ قد تغيّر مصير الشعوب بأكملها، وتوجّه الأقدار نحو مسارات مختلفة. وربما لا ينتظر أحد اليوم صوتاً أعلى من صوته، ولا فعلاً أعظم من فعله.