رغم هذا، لا تبعث الظروف المحيطة بإعادة فتح الطرق على الطمأنينة، حيث أن هذا التطور لم يأتِ ضمن اتفاق سياسي أو حتى ترتيبات عسكرية وأمنية، وهو ما يثير تساؤلات بشأن استدامته. بالقدر الذي خففت هذه الخطوة من أعباء السفر، فقد أضافت مزيدا من الأعباء على المدينة المحاصرة مع تدفق العائدين في ظل تهالك الخدمات العامة واستمرار صعوبات وصول السلع والإمدادات الأساسية إلى المدينة.
تزامن فتح المنفذ مع حلول عيد الأضحى، ما سمح لكثير من أهالي تعز العودة لقضاء إجازة العيد بين أقاربهم، لكن تدفق القادمين استمر حتى بعد انتهاء الإجازة، مدفوعاً بحاجة الكثيرين للحصول على الخدمات الطبية الطارئة أو استصدار وثائق سفر؛ وبمجرد فتح منفذ القصر، تدفقت أفواج من المواطنين إلى مدينة تعز، قادمين من المديريات الشرقية بالمحافظة ومن باقي المحافظات الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثيين. وثّق مكتب شؤون الحصار (التابع للحكومة المعترف بها دولياً وأنشئ في مارس/آذار من العام الجاري، من قبل السلطة المحلية في تعز) زيادة في حركة العبور خلال الشهر الأول من فتح المنفذ، حيث عَبَر (778,157) شخصا، منهم (487,470) إلى داخل مدينة تعز و(290,687) إلى خارجها.
بالمتوسط، عَبَر من المنفذ نحو (27,791) شخصا يوميا، مع العلم أن المنفذ يفتح فقط خلال ساعات النهار. أما بالنسبة للمركبات التي عبرت من المنفذ خلال نفس الفترة، فقد وصلت إجمالاً نحو (129,695) مركبة منها (81,245) مركبة إلى داخل مدينة تعز و (48,450) مركبة إلى خارجها –أي بمتوسط يومي بلغ (4,632) مركبة.
فضلا عن ذلك، أصبح بإمكان عمال المصانع الواقعة شرق المدينة العودة لقضاء إجازتهم الأسبوعية وسط أسرهم داخل المدينة، ولوُحظ أيضا عودة الكثير من سكان تعز ممن نزحوا في بداية الحرب، ويتجلى ذلك في زيادة عدد طلاب المدارس الحكومية والأهلية مقارنة بالسنوات الماضية، إلى جانب ارتفاع الطلب على المساكن وارتفاع أسعار الإيجار الذي يعكس تغيّرات ديموغرافية.
ظلت تعز تعاني من العزلة والصعوبات على مدى سنوات الحصار، وعلى الرغم من النداءات المتكررة لتخفيف المعاناة الإنسانية، فشلت جميع المفاوضات لإعادة فتح بعض الطرق، وواصلت جماعة الحوثيين حصارها المفروض على المدينة. نص أحد بنود اتفاق ستوكهولم – المبرم عام 2018 – على عقد مشاورات حول ترتيبات إعادة فتح الطرق إلى تعز، لكنه فشل في إحراز أي تقدم في هذا الملف. عقب إعلان الهدنة في أبريل/ نيسان 2022، ذكر المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبرج التزام جميع الأطراف بالاجتماع تحت رعاية الأمم المتحدة للاتفاق على إعادة فتح الطرق في تعز والمحافظات الأخرى. في 3 يوليو/تموز، قدم مكتبه مقترحاً محدثًا بشأن إعادة فتح الطرق على مراحل، حيث تشمل المرحلة الأولى أربع طرق رئيسية في تعز. غير أن هذه المساعي باءت بالفشل بعد رفض الحوثيين للمقترح.
جاء التحرك الأحادي للحوثيين بفتح منفذ للمسافرين في الجهة الشرقية من مدينة تعز، بهدف ظاهري يتمثل في تخفيف أعباء السفر على سكان تعز، غير أن الدوافع الحقيقية قوبلت بالشكوك. فقد ربط بعض المحللين فتح منفذ للمسافرين بفتح طرق فرعية في مناطق أخرى وصلة ذلك بالعمليات العسكرية للحوثيين في البحر الأحمر، حيث أثارت طموحات الحوثيين بالتوسع إقليميا الشكوك حول أهدافهم الحقيقية من الانخراط في مواجهة مع إسرائيل، وبأن إعادة فتح الطريق جاءت كخطوة مدروسة لتحسين صورتهم أمام الرأي العام الخارجي الذي بدأ يهتم بالوضع في اليمن وأمام الرأي العام المحلي الذي يعي ممارسات الجماعة تجاه المدنيين العزل.
كان من الواضح أن أحد الأهداف الأساسية جاءت لأغراض دعائية، خاصة وأن إعادة فتح منفذ إلى مدينة تعز جاءت بعد تحركات قادها نصر الدين عامر رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) التابعة لسلطة الحوثيين، والذي عادة ما يتركز نشاطه الإعلامي على تحسين صورة الجماعة أمام الرأي العام الخارجي، من خلال البث المباشر كلما كان هناك قضية مثارة ضد الحوثيين أو واجهوا انتقادات.
وفق منظور الحوثيين، فإن بقاء تعز خارج سيطرتهم – باستثناء 7 مديريات – هو وضع مؤقت، ويتضح ذلك من خلال عملياتهم الأمنية والعسكرية واختيار إعادة فتح منفذ في منطقة عسكرية خطرة تطل عليها تباب مرتفعة يتمركز فيها القناصة، ومحاطة بالخنادق التي يواصل الحوثيون حفر المزيد منها.
في 15 يونيو/ حزيران، أعلنت السلطة المحلية التابعة للحكومة المعترف بها دوليا، عن مبادرة لفتح طريق عصيفرة -الستين لتسهيل مرور الشاحنات الثقيلة ونقل السلع والبضائع إلى المدينة المحاصرة، كون منفذ جولة القصر -المدينة مخصصة لسيارات النقل الخفيف وتفتح خلال ساعات النهار فقط. إلاّ أن جماعة الحوثيين لم تتجاوب مع المبادرة، وأصرت على مقترحها بفتح طريق فرعي غير معبد يربط خط الستين بمدينة النور الطبية شمال مدينة تعز من الجهة الجنوبية، ما دفع عبدالكريم شيبان – رئيس لجنة التفاوض الحكومية بشأن فتح الطرق – للتأكيد حينها بأن جماعة الحوثيين “تسعى لفتح طرق عسكرية“.
توالت المؤشرات على أن هدف الحوثيين عسكري بالدرجة الأولى، وذلك من خلال قيام مسلحيهم بحفر أنفاق على جانبي طريق القصر، حيث تم القبض على خلايا تتبع للحوثيين أثناء محاولة دخولها إلى المدينة وضبط أسلحة بحوزتها.
عقب فتح منفذ القصر – المدينة، كثف الحوثيون من هجماتهم العسكرية في مختلف الجبهات المحيطة بمدينة تعز بالرغم من الهدنة غير الرسمية. وكان اللافت تكثيف الهجوم على المناطق المحيطة بخط الضباب الجنوبي، وهو الشريان الوحيد الذي من خلاله تدخل السلع واحتياجات السكان، كونه يربط مدينة تعز بريفها الغربي، ومن خلال طرق وعرة بمحافظة لحج ومدينة عدن.
بالاستناد إلى معلومات نشرها المركز الإعلامي التابع لقيادة محور تعز العسكري، نفذ الحوثيون 22 هجوما عسكريا ومحاولة تسلل وقصف مدفعي وقصف بطيران مسير في تعز خلال الفترة بين 17 يونيو/ حزيران و19 أغسطس آب. ثمانية (8) من هذه الهجمات تركزت في محيط خط الضباب ومعظمها كانت عبارة عن قصف مدفعي.
بالقدر الذي خفف به فتح المنفذ معاناة المسافرين وسمح للكثيرين بالعودة لزيارة أهاليهم ولمّ شملهم، فضلا عن الاستفادة من الخدمات الطبية المتوفرة في المدينة، بقدر ما أدى ذلك إلى حدوث نوع من الضغط على الخدمات العامة، خاصة في القطاع الصحي.
كشف تقرير مكتب شؤون الحصار زيادة عدد المرضى في جميع المستشفيات والمراكز الصحية حيث التمس 6851 شخصا العلاج خلال الشهر التالي من فتح المنفذ، منها 242 حالة في مركز الأمل للأورام السرطانية و450 حالة في مركز القلب، و70 حالة في مركزي غسيل الكلى في المستشفى الجمهوري ومستشفى الثورة العام – ما جعل مراكز غسيل الكلى تعمل لأربع نوبات في اليوم.[1] شكلت زيادة عدد المرضى القادمين من مناطق أخرى واقعة تحت سيطرة الجماعة ضغطاً كبيراً على المستشفيات والمراكز الطبية المتخصصة في ظل ضعف القدرات الاستيعابية وضعف الميزانيات التشغيلية وقلة الدعم.
في 24 يوليو/ تموز، تحدثت مصادر إعلامية عن توقف جميع العمليات في مستشفى الثورة العام، وتوقف جلسات الغسيل الكلوي بسبب نفاذ مادة الديزل، لافتة إلى أن المستشفى الجمهوري مهدد بالتوقف لذات الأسباب وعلى حافة أزمة مماثلة.
في هذا السياق، علق القيادي الحوثي نصر الدين عامر على الخبر بمنشور على منصة أكس، بالقول إن “وزارة الصحة في صنعاء جاهزة للتدخل” وإنقاذ مستشفى الثورة في مدينة تعز. بينما فسر تقرير مكتب شؤون الحصار سبب إقبال المرضى على الخدمات الصحية في المدينة المحاصرة بأن سلطات الحوثيين لا توفر الخدمات الطبية الأساسية في مناطق سيطرتها أو توفرها بأسعار باهظة. وعند النظر للوضع بصورة عامة، يُعد هذا مؤشراً للتوظيف السياسي لمعاناة سكان تعز.
لم يخلُ فتح منفذ القصر من المعاناة والانتهاكات التي طالت المسافرين، ولعل أبرزها إجبار أصحاب المركبات التي تحمل لوحات جديدة صادرة عن السلطات التابعة للحكومة المعترف بها دوليا على إعادة جمركتها ودفع مبالغ مالية كبيرة. فضلا عن ذلك، تستمر المعاناة المرتبطة بعدم فتح طريق لمرور المركبات المحملة بالسلع والبضائع، سواء تلك القادمة من مصانع تعز في منطقة الحوبان أو القادمة من عدن عبر منطقة الراهدة حيث يستمر الحوثيون بإغلاقها.
لا تزال الطرق البديلة إلى عدن تشهد أسبوعيا حوادث سير وانقلاب لمركبات نقل البضائع وحتى مركبات نقل المسافرين، منها حادث انقلاب حافلة نقل ركاب مؤخراً على طريق كربة الصحى البديل، أدى إلى وفاة 14 شخص بينهم أطفال.
يمثل فتح منفذ إلى مدينة تعز المحاصرة، بعد 9 أعوام، اختراقا مهما في جدار الحرب والحصار، أعاد آمال السكان بانتهاء المعاناة المتشعبة، لكن حتى الآن لا يزال هذا التطور مقتصرا على سهولة التنقل وتخفيف أعباء السفر، ولا يزال التحدي الأكبر يتعلق بفتح الطرق والمنافذ الأخرى (خاصة طريق تعز- عدن) والذي من شأنه أن يسهل ويُسرّع مرور وتدفق السلع لتخفيف المعاناة الاقتصادية عن سكان المدينة. علاوة على ذلك، إنهاء حصار مدينة تعز يجب أن يكون محكوما بإطار سياسي شامل وضمانات دولية.
المصدر.. مركز صنعاء للدراسات - وسام محمد