لذلك، إذا كنت تواجه التحدِّيات المعيشية القاسية، التي تفرضها عليك ظروف الحرب والانهيار الاقتصادي، وصعوبة الحصول على لقمة العيش، أو انعدامها، فإن معاناتك تبدو هيِّنة بالنسبة لآخرين. هناك من يواجهون كل هذه الظروف مجتمعة، مضافاً إليها آلام وأعباء مرض قاتل يفتك بأحبائهم وينهك حياة الأسر -إن لم يدمرها.
قبل الحرب، كانت تقارير منظمة الصحة العالمية تتحدّث عن تسجيل 20 ألف إصابة بالسرطان سنوياً في البلاد وفقاً لتقارير 2009.
المشكلة ذاتها، التي تواجهها البلاد الآن وتفاقمت بفعل الحرب، كانت هي نفسها قبلها، فالنظام الصحي الهش، المحدود والضعيف، لم يكن مهيأ لمواجهة هذا المرض القاتل، لذلك كان 60 في المئة منهم يموتون، ومن يتماثلون للشفاء، لا يعيش 20 في المئة منهم أكثر من عام.
في ديسمبر العام الماضي، قال وزير الصحة إن عدد الإصابات السنوية بالمرض يصل إلى 30 ألف حالة. بالطبع، فإن هذه الحالات المسجَّلة لا تعكس الواقع الفعلي، فالأطباء والمختصون يتحدَّثون عن جزء أكبر مفقود من قصة الكارثة، يتعلَّق ربما بضعف هذا العدد لا يصلون إلى المراكز الطبية، أو يموتون دون أن يتم تشخيص حالتهم، فضلاً عن من يسافرون للعلاج في الخارج.
ما هو لافت أن محافظة تعز تحتل المرتبة الأولى في الإصابات، وهناك تزايد في أعداد المصابين سنوياً بشكل مفزع، حيث بلغ في آخر إحصاء عام 2024م "1626" إصابة جديدة؛ بزيادة تقدّر ب34% مقارنة بالعام الذي سبقه. على أن الأمر لا يقتصر على السرطان، فثلثا حالات الإصابة بفيروس الكبد الوبائي (B) في اليمن، مسجلة في تعز، وفقاً لإحصاءات قديمة. هذه المعطيات تحتاج إلى دراسات علمية معمّقة لمعرفة ما الذي يجعل هذه المحافظة أكثر عُرضة لهذا النوع من الأمراض الخطرة.
داخل هذا المشهد، الذي يتفاقم بصورة مروّعة، هناك سرطان الثدي الذي يفتك بالنساء، وتداعياته تتجاوز الحالات المصابة إلى صناعة مشكلات اجتماعية دمَّرت أسراً بسبب الفقر وقلة الوعي، وكانت المرأة تدفع الثمن مضاعفاً: من جسدها وحياتها، ومن محيطها وعلاقاتها الاجتماعية والأسرية.
هذا النوع من السرطان تبلغ نسبة الإصابة به أحياناً نحو 40 في المئة من النسبة الكلية المسجّلة لمختلف أنواع المرض، كما قال لي طبيب أورام.
جزء من المشكلة في تعز أن مركز الأمل لعلاج الأورام لا يمتلك جهاز "الماموجرام" الخاص بتشخيص سرطان الثدي. لذلك معظم الحالات التي تكتشف تصل وهي في مراحل متقدِّمة، وغالباً تكون غير قابلة للشفاء.
أمام هذا الحال المخيف والمزري، لا زالت المؤسسات الصحية، التي أنشئت لمواجهة هذا المرض الخطير قبل نحو 3 عقود بمبادرات مدنية، إما تراوح عند اللحظة نفسها التي تأسست فيها، أو أنها تدهورت مع الحرب.
ما زالت جهود مكافحة السرطان تعتمد على التبرّعات، وعلى ما تقدِّمه المنظمات الدولية مع مساهمة محدودة من الحكومة، في المقابل هناك إخفاق إداري واضح يجعل من هذه المؤسسات هياكل للتوظيف الإداري، بلا أي رؤية للتطوير والتأهيل الأكاديمي لكادر طبي متخصص.
في تعز، مثلاً، يفتقد مركز الأمل لعلاج السرطان، الذي يقدِّم خدماته لمواطنين من محافظات عدة مجاناً، لأجهزة الأشعة، كما يفتقد لأجهزة أساسية ذات صلة بالكشف المبكر عن السرطان، لذلك تُهدر عشرات الملايين شهرياً لدفع فواتير الأشعة للمرضى، بينما يمكن توفير الأجهزة عن طريق تبرّعات رجال الأعمال، أو الحكومة، أو حتى عن طريق الاقتراض وتحويل المبالغ المدفعوعة شهرياً إلى أقساط!
لا تزيد قيمة جهاز "المامو جرام" التشخيصي لسرطان الثدي عن 140 ألف دولار. المبلغ إجمالاً ليس بتلك الضخامة، إذ يبدو يسيراً على أي رجال أعمال، في محافظة تضج بالكثير من اللافتات والعائلات التجارية الكبيرة العابرة لحدود الدّول، أن يتبرع به كنوع من رد الجميل لتعز، لكن حتى اللحظة لم يفعل أحد رغم كثرة المناشدات والمرضى.
ذات مرة، اقترح أحدهم على رجل أعمال من صنعاء تحمّل تكاليف شراء الجهاز: الرجل هو عضو في مجلس أمناء المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، التي تمثل الهيكل الإشرافي الأكبر على فروع المؤسسة في صنعاء وتعز. كانت حجته أنه لا يستطيع أن يفعل وبيت هائل سعيد موجودون! ربَّما لديه بعض الحق، سيما أن الرّجل تكفل بتوفير جهاز مشابه لمركز علاج الأورام في صنعاء.
في الدِّول "الكافرة"، بنظر بعض المسلمين، تفرض القوانين على الشركات ورجال الأعمال إنفاق 10 في المئة من أرباحهم في الأعمال الخيرية، أما المسؤولية الاجتماعية نحو المحيط، الذي تنشط فيه، فلا يحتاج لأي نقاش. وهناك دول عديدة، على رأسها مصر، أنشأت بالتبرعات الطوعية لرجال الأعمال والمشاهير والمساهمات الشعبية مؤسسات ضخمة لمكافحة وعلاج السرطان، وحولت جزءا منها إلى مراكز أبحاث علمية متخصصة بالمرض.
كل الأفكار الملهمة والخلاقة، التي أطلقها العالم كتعبير عن التكافل والتعاضد الاجتماعي في مواجهة الأوبئة والأمراض القاتلة، كانت تنتهي في اليمن إلى مشكلة إضافية أحياناً، أو أنها تراوح مكانها عند لحظة إطلاقها دون تطوير أو تُفرغ من مضمونها لتصبح شيئاً آخر.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مركز الأمل لعلاج السرطان في عدن، وكيف انتهى إلى مشكلة تتجول في أروقة النيابات والمحاكم!
في كل الأحوال، نحن أمام كارثة أخرى، وموت يتسلل خلسة في بلد أبوابه مفتوحة لكل مخلفات العالم: من المبيدات السامة والمحرَّمة دوليا، كتجارة تديرها مليشيا الحوثي، إلى الأدوية المهربة والسلع الغذائية، وكل المدخلات الصناعية التي لا تخضع لأي ضوابط أو رقابة.
إن التبرَّع لمؤسسات السرطان بالأجهزة والمعدات والأموال أمر مهم وضروري، لكنه وحده لا يكفي. يجب أن تفعّل الجهات الإشرافية عمليات المساءلة والرّقابة، وتطبيق صارم لآليات الحوكمة في إدارتها التنفيذية، لتحقيق الهدف الأسمى من وجودها، وهو خدمة المرضى، وبناء قدرات طبية كفوءة، مؤهلة، وتحظى بالرعاية.