قام ثلاثة بمشاركة تجربتهم مع المرض النفسي الذى ربما يكون الأكثر شيوعا وانتشارا حول العالم.
يوسف فقد والدته منذ أكثر من عام ودخل بعدها في حالة اكتئاب حاد، وقتها لم يكن يغادر غرفة نومه لشهور طويلة، هربا من لقاء أي أحد أو الحديث مع أحد.
ويقول يوسف لبي بي سي "صارت الغرفة بيتي، آكل وأشرب وأنام بها، لا أتواصل مع أي أحد ولا أستعمل هاتفي نهائيا، كما كنت أتحسس كثيرا لأي محاولة للاقتراب من عزلتي أو مساعدتي من جانب المحيطين بي"
فما هو الاكتئاب؟
يقول الدكتور وائل المومني اختصاصي الطب النفسي وعلاج الإدمان في الأردن لبي بي سي، إن الاكتئاب "هو تدنٍ حاد مستمر في المزاج يصيب الإنسان مما يفقده قدرته على الاستمتاع بالأشياء التي كان يحبها سابقا".
ويؤكد الأخصائي النفسي عدم وجود أسباب واضحة للإصابة بالاكتئاب لكنه يشير إلى أن مناطق الحروب والكوارث تشهد زيادة في حالات الإصابة بالاكتئاب بسبب الظروف المحيطة. إذا أن هناك مجموعة عوامل تعزز الشعور بالاكتئاب منها "عوامل جينية وبيولوجية وبيئية وظروف اقتصادية، وهي كلها محفزات للاكتئاب لكنها ليست بالضرورة أسبابا للإصابة به. و يعد الأشخاص الذين عاشوا تجارب سلبية كالبطالة، أو فقدان شخص عزيز، أو المرور بأحداث صادمة، هم الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب".
يؤكد الدكتور أحمد عكاشة الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي في حديثة لبي بي سي ما ذهب إليه الدكتور المومني، مضيفا أن هناك سؤالين يمكن من خلالهما معرفة ما إذا كان المريض يعاني من هذا الاضطراب النفسي الذي يفقده البهجة أم من مجرد حالة حزن عادية. وهما: خلال الشهر الأخير هل تغيرت حياتك عن قبل؟ السؤال الثاني: هل في حياتك الآن، أصبحت لا تستطيع العمل؟ لا تذهب للجامعة أو المدرسة؟ لا تستطيع ممارسة الرياضة؟ لا تستطيع الاختلاط بالناس؟ إذا أجاب بنعم يكون المريض في حالة اكتئاب شديد.
وبحسب عكاشة عادة ما تظهر أعراض الاكتئاب في صورة تعب جسدي، إذ يشير إلى أن 60 في المئة من مرضى الاكتئاب يعانون من آلام في المعدة أو الدماغ أوالعظام. وفي هذه الحالة يسمى الاكتئاب بالاكتئاب المقنع أو الاكتئاب الجسدي، ولهذا يتوجه هؤلاء المرضى لطبيب الأمراض الباطنية و ليس للطبيب النفسي وغالبا ما يكون سبب المرض نفسيا وليس عضويا.
كما يؤكد أن هناك علاقة ترابط بين الاكتئاب والصحة البدنية. فمثلا، يمكن أن تؤدي أمراض القلب والأوعية الدموية إلى الاكتئاب والعكس صحيح.
التقيت بعامر البالغ من العمر 20 عاما، والذى عانى من كل أعراض الاكتئاب المقنع بعد فقد أخيه في حادث سير قبل عامين.
ويقول "لم أكن قادرا على النوم، كنت أنام لساعتين في اليوم على الأكثر بعد الحادث الأليم، ومنذ ذلك الوقت صرت أعاني من صداع مزمن وألم في الرأس وتعب جسدي شديد، كما انقطعت عن تناول الطعام نهائيا فخسرت 30 كيلوغراما من وزني".
وبحسب الدكتور المومني، يعد الفقد واحدا من أكثر الأسباب شيوعا للإصابة بالاكتئاب.
وبعكس يوسف، الذى لم يبحث عن مساعدة من جانب متخصص، بحث عامر عن مساعدة متخصصة وتوجه لأكثر من طبيب رغم رفضه في البداية للخضوع للعلاج.
ويقول عامر" كنت أرفض المساعدة في البداية نهائيا، وكنت أمكث في غرفتي لأيام، لكن بعد أن زادت الأعراض الجسدية التى أعانيها، ذهبت للطبيب الذي أجرى كل الفحوصات ولم يجد سببا عضويا لآلامي فطلب مني أن أزور طبيبا نفسيا".
بدأت رحلة علاج عامر قبل 4 أشهر وهو الآن في منتصف طريق العلاج، كما يقول، ويشعر بتحسن. لكنه مازال غير قادر على العودة للدراسة التي تركها قبل عام بسبب الاكتئاب.
الاكتئاب في العالم العربي
يعانى نحو 10 في المئة من سكان العالم من اضطرابات نفسية. وتُصنف منظمة الصحة العالمية الاكتئاب باعتباره واحدا من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الإعاقة في العالم، وهو مساهم رئيسي في العبء العالمي العام للمرض. ويمكن أن يؤدي الاكتئاب في أسوأ حالاته إلى الانتحار. وينتحر كل عام أكثر من 700,000 شخص. والانتحار هو رابع سبب رئيسي للوفاة عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة.
ولا تتوافر أرقام موثقة ودقيقة عن انتشار المرض النفسي عموما في العالم العربي، والاكتئاب تحديدا.
رغم ذلك أشار استطلاع رأي أجرته شبكة البارومتر العربي لصالح هيئة الإذاعة البريطانية -بي بي سي- خلال عامي 2018 و 2019، في عشر دول عربية والأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أن نحو 30 في المئة من سكان المنطقة إما شعروا بالاكتئاب أو عانوا من أعراضه ومن ضغوط الحياة اليومية.
وبحسب الاستطلاع تأتي سبع دول عربية على رأس قائمة الدول العربية التي تعانى من نسب مرتفعة من الاكتئاب، وهي: العراق بنسبة 43 في المئة، تليها تونس بنسبة 40 في المئة، ثم فلسطين بنسبة 37 في المئة ، والأردن بنسبة 34 في المئة، ولبنان بنسبة 30 في المئة، ومصر بنسبة 25 في المئة، و أخيرا ليبيا بنسبة اكتئاب وصلت إلى 23 في المئة.
ويقول الدكتور عكاشة إن مرضى الاكتئاب في العالم العربي يعانون أكثر من غيرهم حول العالم كون"الوصمة المصاحبة للمرض النفسي تظهر في العالم العربي أكثر من غيرها، مما يعوق عملية علاج المرضى".
ويضيف عكاشة أن المواطنين في العالم العربي يعزون أعراض الاكتئاب لأسباب أخرى لا تتعلق بالمرض و بناء على ذلك يتم اللجوء إلى العلاج الشعبي، إذ يعتبر البعض أن هذه الأعراض تحدث بسبب ما يصفونه بالحسد أو الجن.
ويؤكد "في بحث أجريته وجدت أن 70 في المئة ممن يترددون على مستشفى الجامعة للعلاج، كانوا قد توجهوا للعلاج التقليدي قبل القدوم للطبيب النفسي".
النساء
النساء أكثر اكتئابا
نعمات قالت لي إنها عانت من الاكتئاب بعد أن فقدت والدتها قبل 5 سنوات، وبعد يومين فقط من الوفاة وضعت طفلتها لتزيد كآبتها و تدخل في حالة اكتئاب ما بعد الولادة، لكن القدر لم يمهلها وقتا طويلا حيث فقدت والدها بعد 7 أشهر فقط من وفاة والدتها وولادة ابنتها.
تصف نعمات تلك الفترة بالعصيبة وتقول "كانت ردود فعلي عنيفة، وكنت أحيانا أؤذي نفسي أو أؤذى أولادي وأضربهم، كنت أيضا لا أهتم بصحتي و لابنظافتي الشخصية، كل ما كنت أفكر فيه هو أن ألحق بأمي وأبي المتوفين".
كانت نعمات في تلك الفترة تقيم خارج البلاد ولم يكن حولها شبكة دعم تساعدها على الخروج من حالة الاكتئاب التي عانتها.
الوصمة الاجتماعية كانت السبب في إعاقة علاج نعمات لوقت طويل "كنت أطلب من زوجي أن أذهب لطبيب نفسي لمساعدتي لكنه كان دائما ما يرفض ذلك باعتبار الأطباء النفسيين يساعدون المجانين فقط". لحسن حظ نعمات أنها كونت صديقات في البلد الخليجي الذي انتقلت إليه مع زوجها وهن من تمكنّ من مساعدتها خاصة أنه كانت بينهن طبيبة نفسية ساعدتها على الاندماج في أنشطة تطوعية و أنشطة خدمة مجتمعية مما ساعدها على الخروج من حالة الاكتئاب.
ورصدت منظمة الصحة العالمية إصابة النساء بالاكتئاب أكثر من الرجال حول العالم لكنها لم توضح الأسباب وراء ذلك.
وبحسب دراسة أجراها البنك الدولي، فإن 7 بلدان من أصل 10 تتصدر العالم في ظاهرة الاكتئاب عند النساء، تقع جميعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويبدو أن حجم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تتعرض لها النساء في تلك البقعة من العالم، وصعوبة التوجة للطبيب النفسي في المراحل المبكرة للمرض، قد تكون السبب وراء ارتفاع نسب الإصابة بالاكتئاب بينهن.
مرضى الاكتئاب
مرض له علاج
وعن علاج الاكتئاب، أشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 75 في المئة من سكان البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لا يتلقون علاجا للاكتئاب. وغالبا ما يرتبط ذلك بالوصم المجتمعي و عدم إدراك المرضى أنهم يعانون من الاكتئاب أساسا ليبحثوا عن العلاج، فضلا عن ارتفاع تكلفة العلاج النفسي وطول زمنه في بلاد يستطيع الأفراد فيها بالكاد تأمين حاجات يومهم.
ويقول الدكتور وائل المومني إنه يمكن للأفراد حماية أنفسهم من الإصابة بالاكتئاب ومن تفاقم حالتهم إذا أصيبوا بهذا المرض، ويضيف "هناك عوامل تخفف أو تؤخر من حدوث المرض منها الأكل الصحي و لعب الرياضة والتنفيس الإيجابي والدعم العائلي خصوصا في حالات الفقد والتي تعد سببا رئيسيا وراء الإصابة بالاكتئاب".
وعادة ما يتم علاج الاكتئاب في درجتيه المتوسطة والخفيفة عن طريق ما يعرف بالعلاج المعرفي السلوكي. وهو علاج يعتمد على التأثير على طريقة التفكير والسلوك والمشاعر التي تنتاب الفرد، وذلك للحيلولة دون دخوله لمرحلة الاكتئاب الشديد.
ويؤكد عكاشة أن هذا النوع من العلاج "الكلامي" لا يتم تناول أي عقاقير فيه، كما أنه لا يستغرق وقتا طويلا، إذ تمتد رحلة هذا النوع من العلاج بين 16 إلى 18 جلسة، تتراوح ما بين مرتين إلى 3 مرات في الأسبوع.
ويعتمد العلاج المعرفي السلوكي على فروض يجب أن يقوم بها الشخص المريض بمفرده قبل القدوم إلى الجلسة التى يديرها الطبيب. أما في حالات الاكتئاب الشديد يمكن الاعتماد على مضادات الاكتئاب وهي عقاقير كثيرة جدا و متنوعة، وكل واحد منها يتم استخدامه لغرض محدد، فأحدها للأرق، وآخر للقلق، وهناك واحد لمن يعانى من أفكار انتحارية.
ويضيف المومني أن" هناك ما لا يقل عن 40 - 50 مضاد للاكتئاب، وجميعها آمن و لا يسبب أي نوع من الإدمان على الإطلاق طالما تم استخدامها والتوقف عن استخدامها تحت إشراف طبي". وبما أن الاكتئاب سبب رئيسي للانتحار - بحسب منظمة الصحة العالمية - فإن إهمال علاجه يعد خطرا كبيرا.
وبحسب عكاشة، في حالات الاكتئاب الشديد للغاية - وهي حالات نادرة جدا، "يتم اللجوء إلى جلسات تنظيم إيقاع المخ وفيها يتم تعريض المخ لصدمة كهربائية لا يتجاوز زمنها ثانيتين فقط". ويؤكد أن الاكتئاب مرض يمكن الشفاء منه نهائيا، مشيرا إلى أنه في 95 في المئة من الحالات يشفى المرضى بالعلاج المعرفي السلوكي ولا يحتاجون لغيره.