غير أن هذه المكاسب تتسم بالهشاشة، ولا ينتفي الخطر الداهم من خروجها عن مسارها. ومع تجدد المخاوف بشأن الأمن الغذائي في اليمن وتراجع الدعم الدولي في خضم الحرب الدائرة في أوكرانيا وتداعياتها في جميع أنحاء العالم، لم يَعُد الوقت الآن وقت التراخي، بل وقت مضاعفة جهودنا لضمان عدم تبدّد التقدم المحرز ومواصلة البناء عليه.
خلال السنوات السبع الماضية، تطوّر مركز صنعاء بمستويات فاقت التوقعات، وزادنا ذلك صلابة في البقاء مخلصين للمبادئ والقيم الأساسية التي قمنا عليها كمؤسسة.
كمركز بحثي، حرص على تحقيق التوازن الدقيق في مخاطبة القرّاء اليمنيين والأجانب من مختلف أنحاء العالم -على حدًّ سواء.
إلا أن عمله يمضي إلى ما هو أبعد من إجراء البحوث، حيث صممنا وقدنا مبادرات وآليات تعكس أفكارنا وقيمنا، وهي مبادرات تواجه النُهج والرؤى المحدودة النطاق التي عفا عليها الزمن في تناول الصراع الدائر باليمن.
كما يتحدى نموذجه النُظُم الدولية والعالمية متعددة الأطراف الإقصائية.
وبينما كانت استقلاليتنا بنيوية وحاسمة حتى عن عالم المانحين، فإن عمله في نفس الوقت منفتح على الجميع بما في ذلك أولئك الذين نختلف معهم وعنهم جذريًا.
لقد اتسم عمله بالجرأة أيضًا، كونه ينطوي على أفكار مبتكرة وجريئة في مسيرتنا بالدفاع عن القيم الإنسانية والحقيقة ومصالح عموم اليمنيين في واحدة من أكثر البيئات دموية وانقسامًا على وجه الكرة الأرضية.
يتمسك المركز بإيمانه في قدرة وحق اليمنيين على تقرير مستقبلهم وقيادة سردياتهم بأنفسهم.
ويعمل بلا هوادة للجمع بين الأطراف لاتخاذ القرارات بشأن مستقبل بلدنا. إن تحقيق السلام المستدام لا يتوقف على عواصم الدول الأجنبية أو تدخلات المجتمع الدولي، ولا على الطموحات المحدودة للنخب والميليشيات التي تهيمن على الحياة السياسية المحلية، بل يعتمد على أن يوجِد اليمنيون مساحة للتعبير عن صوتهم الخاص ورؤاهم للسلام؛ وملتزم بإعلاء تلك الأصوات.
يلبي مركز صنعاء هذا الطموح عبر إنتاجه المعرفي وإيصال رؤى اليمنيين لصناع القرار والجمهور، والجمع بين الأطراف اليمنية بمختلف انتماءاتهم ووجهات نظرهم المتعددة ضمن منابر تعزز الحوار والتخطيط. لكن الأهم من ذلك هو حرصنا على مساءلة ومحاسبة جميع الأطراف داخل وخارج اليمن، بصرف النظر عن قوتهم أو نفوذهم، من أجل ضمان أن تلبي سياساتهم وأفعالهم احتياجات ومستقبل الشعب اليمني.
حقق الكثير خلال العام الماضي، إلا أن ثلاث مبادرات برهنت مستوى العمل المتميز الذي حققه مركز صنعاء:
شهد المركز أوج النجاح في تحقيق رؤيته من خلال تنظيم منتدى اليمن الدولي، الذي عُقد بنسخته الأولى في العاصمة السويدية ستوكهولم في يونيو/ حزيران 2022، حيث أتاح المنتدى فرصة للفاعلين اليمنيين للالتقاء وأخذ زمام المبادرة في التخطيط لمستقبل البلاد.
جمع المنتدى أكثر من 250 شخصًا بمختلف انتماءاتهم ومواقفهم المنبثقة من رَحِم الانقسامات الناجمة عن الصراع، إلى جانب ممثلين دوليين، وأتاح منبرًا للتحاور بشأن مصير البلاد.
كما أخذ المنتدى على عاتقه إيصال أصوات جميع شرائح المجتمع اليمني، وخاصة أصوات الأقليات والفئات المهمشة المقصيّة عادة من المقايضات السياسية التي تهيمن على المشهد في اليمن.
برزت سلسلة تقاريرنا التي فككت الاستجابة الإنسانية في اليمن، والمنشورة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كإحدى أكبر أعمالنا البحثية حتى تاريخه، حيث ضغطت من أجل ممارسة أكبر قدر من المساءلة حول الاستجابة الدولية للوضع الإنساني باليمن، بل واعترضت على بعض النُهُج الرئيسية المُتبعة في هذا الصدد.
ترددت أصداء النتائج والتوصيات التي توصل إليها المركز، وانعكس ذلك بشكل واضح في التقرير المنشور مؤخرًا لفريق العمل المشترك بين وكالات الأمم المتحدة الذي استعرض الاستجابة الإنسانية في اليمن، وهو ما يُشدد على أهمية تحقيق المساءلة المحلية وتوطين الاستجابة الإنسانية باعتبارهما الوسيلة الأفضل لتدخل دولي فعّال.
كما واصل مركز صنعاء، العام الماضي، الاضطلاع بدوره الريادي في جهود المسار الثاني لتحقيق السلام، عبر توفير منابر للشباب والنساء والقبائل وقوات الأمن والمثقفين والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والرواد الاقتصاديين والتنمويين، داخل اليمن وخارجه.
تواصل مبادرته “منتدى سلام اليمن“، وهي مبادرة مسار ثان للشباب والمجتمع المدني، الاستثمار في الجيل القادم من الباحثين اليمنيين وإشراكهم في القضايا الوطنية الحساسة.
كما نجحت مبادرة “إعادة تصور اقتصاد اليمن” -وهي مبادرة بحثية وُضعت مع شركائنا في إطار جهود المسار الثاني -في الجمع بين الجهات الفاعلة بالقطاع الخاص اليمني والخبراء الاقتصاديين والتنمويين.
فضلًا عن ذلك، تركز مبادرته في شرق اليمن على إعلاء الأصوات المحلية من المناطق المهمشة تاريخيًا في الساحة الوطنية والدولية.
كذلك انخرط مع الجهات الفاعلة الإقليمية بغية تشجيعها على مواصلة الحوار مع اليمنيين.
خلاصة القول هو أن جهوده في المسار الثاني تنبع من صميم إيماننا بحق كل صوت يمني في أن يُسمع، دون تفضيل قيم أو أفكار أو أفعال بعينها على حساب أخرى.
يقول المركز:
بينما نفخر باستمرارنا في لعب دور نافذة اليمن على العالم ونافذة العالم إلى اليمن، فإننا أيضًا نشعر بالرضى إذ أن نموذجنا الجريء قد شجع وألهم مبادرات يمنية وغير يمنية مماثلة. نحن ملتزمون بتمكين وتشجيع ودعم هذه المؤسسات البحثية، خاصة تلك التي تتبنى بحق وحقيقية نموذجنا في تمكين القيادة والسردية المحلية.
على المستوى الداخلي، واصلنا تعزيز إمكانياتنا كمنظمة محلية ذات امتداد وتأثير عالميين.
يضم المركز ما يقرب من 50 موظفًا يضطلعون بالعمل الميداني في اليمن، وعدد مماثل يعملون لحساب المركز من مختلف بلدان العالم. إحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها عمل المركز هم مجموعة الباحثين الذين يعملون في الميدان، مُعرّضين أنفسهم لمخاطر يومية من أجل إطلاع العالم على الحقائق الموجودة على الأرض ومصاعب الحياة التي يقاسيها اليمنيون.
قمنا برَفد عمل فِرَقِنا من خلال إعادة تشكيل هيئة الإدارة والسياسات المؤسسية داخل المركز، وتعميم مبدأ المساواة بين الجنسين، والاستثمار في وسائل الإعلام الحديثة مثل البودكاست والسرد القصصي المرئي، إلى جانب افتتاح مكتب للمركز في العاصمة الأردنية عمّان مؤخرًا، استكمالًا لوجودنا المؤسسي في اليمن ونيويورك ولندن وجنيف.
أما على المستوى الخارجي، فقد تبنى مركز صنعاء نُهُجًا جريئة ومبتكرة تضمن استدامتنا وتعزز قدرتنا على الاستمرار في التأثير من خلال عملنا في واحدة من أكثر البيئات دموية وتحديًا في العالم. ما زلنا نرفض التعامل مع أطر تفتقر إلى بُعد نظر أو تسعى إلى فرض أجندات دولية وحلول غير عملية على حساب الرؤى والاحتياجات والأولويات المحلية، أو تخدم أولئك الذين يسعون إلى استغلال اليمنيين عوضًا عن دعمهم.
ولمواصلة تدعيم مواردنا وضمان استدامتها، نعمل على تصميم باقة عضوية من شأنها أن تساعدنا على التحرّر من الأنظمة التمويلية والسماح للمؤمنين برسالتنا وروحنا وجوهر عملنا بدعمنا مباشرة. ولأولئك المانحين والشركاء الذين “جازفوا” وآمنوا بنا ودعموا المنظمات المحلية بصدق وبشكل مباشر، نعدكم بأن نحترم هذه الثقة.
ينتظرنا عام مُشوق وحافل بالتحديات، حيث نعمل على توسيع نطاق أجندتنا البحثية لتشمل قضايا جديدة كالبيئة وتغيّر المناخ، والأمن الحدودي والإقليمي.
كما نعمل على دفع عجلة الحوار الشامل من خلال مواصلة مؤتمر التبادل المعرفي اليمني -الذي أصبح نموذجًا يُحتذى به في كيفية فهم ظروف الصراع، ونتطلع قُدمًا إلى إطلاق مؤتمر التبادل المعرفي اليمني الخليجي -الذي يركز على اليمن وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، وتنظيم النسخة الثانية من منتدى اليمن الدولي، والتعمق في مبادرات المسار الثاني وإعادة تصميمها.
سنواصل كذلك تزويد وسائل الإعلام الدولية وصُناع القرار وبُناة السلام بأحدث المعلومات المستقاة من الميدان وأهم التحليلات من الخبراء المحليين.
ولن نتوانَ في السعي لضمان المساءلة بجميع أشكالها، وتحديد الأطراف التي تسيء استخدام المساعدات وتستهدف المدنيين، والعواصم الأجنبية التي تتبنى سياسات مُضرة تقوّض الاستقرار في بلادنا، والجهات المتربّحة من اقتصاد الحرب ومن معاناة الشعب اليمني. كما تقدم سلسلة تقاريرنا النوعية التي أطلقناها مؤخرًا بعنوان “أسبوع اليمن” تحليلًا وتقييمًا شاملين وكاملين لا مثيل لهما عن أهم تطورات النزاع في البلاد وأثرها على عملية السلام، وتتبع -أيضًا -انتهاكات حقوق الإنسان بهدف محاسبة مرتكبيها في نهاية المطاف.
نحن على أهبة الاستعداد للمهمة التي تنتظرنا، فعودنا اليوم صلُب، وشغفنا أكبر من أي وقت مضى، وندرك تمامًا مكانتنا اليوم على الساحة اليمنية والعالمية.
يحدونا الأمل في أن يُلهم عملنا ونموذجنا القيادي الشاب الآخرين -لا سيما الأجيال الشابة المقبلة -وأن يُعزز إيمانهم بقدرتهم على إحداث التغيير. وبينما نهنئ فريقنا على إنجازهم المذهل، لا ننسى أبدًا أن قوتنا الآن تكمن في التنوع والشمولية وليس في التنافسية، وفي انفتاحنا واستعدادنا للتعلم من الآخرين والاستماع إليهم والتعاون معهم.
في ظل هذه الأوقات العصيبة التي نشهدها في عموم اليمن وحول العالم، لا ننسى أيضًا إلى أي درجة نحن محظوظون لقدرتنا على متابعة سعينا في رسم مستقبل أفضل لليمن، وعالم أفضل ذي بصيرة.