ولم يسبق لفاروق شاهر عبدالحق، وهو على رأس قائمة المطلوبين لدى جهاز الشرطة البريطانية، والذي أُصدرت ضدّه مذكرة توقيف دوليّة، أن تكلّم في هذه القضيّة.
وقال فاروق لبي بي سي إن وفاةَ مارتين فيك ماغنوسن كانت نتيجة "حادثٍ جنسي" انتهى إلى نتيجة غير مرغوب فيها. إلاّ أنه قال أيضاً إنه غير مستعدّ للعودة إلى المملكة المتحدة للتحدّث إلى الشرطة، لأنّ الوقت "تأخّر جدًّا".
وتقول الصحفية "نوال المقحفي" مراسلة بي بي سي، التي أجرت الحوار مع فاروق: كنت طالبة عندما عُثِر على جثّة مارتين، ووجدت اكتشافها صادمًا إلى حدٍّ بعيد، خصوصًا عندما أعلِن عن الاشتباه بشخص يمني، وأنا يمنيّة بدوري.
وتضيف: "لم أتمكّن من التواصل مع فاروق عبدالحق، حتى السنة الماضية بدأت مراسلاتي معه عبرَ منصّات التواصل الاجتماعي. مئات الصحافيّين حاولوا التواصل معه على مدى السنوات الأربعة عشر الأخيرة، ولكنّه تغاضى عنهم جميعًا. غير أنّ خلفيّتنا اليمنيّة المشتركة ساعدتني في الحصول على ثقته. بعد مرور عشرة أيّام من التواصل في ما بيننا، أرسل لي مجموعة من الرسائل النصيّة تضمّنت ما أصبح يُعتبر سلسلةً من نصوص المكاشَفة".
ويقول فاروق في إحدى رسائله: "فعلت شيئًا عندما كنت أكثر شبابًا، وكانت غلطة"، كتب في واحدة من تلك الرسائل.
ومن خلال آلاف الرسائل النصيّة والملاحظات الصوتيّة التي أرسلها إليّ على مدى خمسة أشهر، لم يستخدم قطّ اسم مارتين، ولا أشار إلى مقتلِها، مفضِّلًا استخدام كلمة "حادثة"، تشير نوال.
ودرس فاروق ومارتين في معهد "ريجنت لإدارة الأعمال" في لندن، وكانت مارتين تأمل أن تحظى بوظيفة في قطاع المال والأعمال في العاصمة. كانت آخر مرّة رآها فيها أصدقاؤها وهي على قيد الحياة في الساعات المبكّرة ليوم الرابع عشر من آذار مارس عامَ ألفَين وثمانية، وذلك في نادي "مادوكس" الليلي ذي العضويّة الحصريّة في ضاحية "مايفير"، وكانا هي وفاروق عبد الحق يحتفلان بانتهاء الامتحانات.
ويقول هؤلاء الأصدقاء إن فاروق عرض الانتقال إلى شقته في شارع Great Portland في وسط لندن لمتابعة الاحتفال. كان الأصدقاء مرهقين للغاية، ولكنّهم يقولون إن مارتين كانت تريد أن تتابع الاحتفال - وتُظهِر كاميرات المراقبة أنها غادرت برفقة فاروق في الثانية والدقيقة التاسعة والخمسين فجرًا. ولا يوجد شهود على ما حدث بعد ذلك. وقبل أن تشرق الشمس كانت (مارتين) قد فارقت الحياة - مع أنّ جثّتها لم تُكتشف إلاّ بعد أربعٍ وعشرين ساعة على الأقل.
وكان فاروق عندها قد غادر المملكة المتحدة على متن طائرة متوجّهة إلى القاهرة. وهناك استقلّ طائرة والده الخاصّة متوجّهًا إلى اليمن. ويصرُّ محاميه على كونه بريئًا من جريمة القتل.
فاروق لم يكن مواطنا يمنيًّا عاديًّا. فقد نشأ بين الولايات المتحدة ومصر. وهو نجل شاهر عبد الحق - أحد أكثر اليمنيّين ثراءً وسطوة، وذلك بفضل إمبراطوريّة تجارة السكَّر التي بناها، وتجارة المشروبات الغازيّة والنفط والسلاح، ناهيك عن كونه صديقًا مقرّبًا للرئيس اليمني في ذلك الوقت على عبدالله صالح.
وأوضحت نوال: عندما حاولت الاتصال بفاروق للمرّة الأولى سنة ألفين وإحدى عشرة، قضيتُ أشهرًا في اليمن وأنا أبحث عنه. لكنّني أجبرتُ على المغادرة عندما طلبت منّي السلطات التخلّي عن متابعة القضيّة.
"في شباط/فبراير عام ألفين واثنين وعشرين قرّرتُ النظرَ في القضية من جديد، من لندن. وكان والد فاروق قد توفّي كما أطيحَ بالرئيس صالح. وتساءلت حينها ما إذا كنت سوف أفلح في جعل فاروق يتكلّم. غير أنني كنت أعرف أيضًا أن المسألة لن تكون سهلة. وحين تمكّن أحد الأصدقاء من الحصول على رقمه، أرسلت له رسالة نصّية بواسطة تطبيقات متعدّدة، ولكن من دون الحصول على ردّ. بعدها لاحظ صديقي أن فاروق يستخدم تطبيق سناب شات. وبعثتُ إليه برسالة، وبعد ثوانٍ معدودة تلقّيت ردَّه. سؤاله الأوّل لي كان عن البلد الذي أتحدّرُ منه. أعطيته اسمَ الضاحية الثريّة التي نشأت فيها، ظنًّا مني أنه قد يكون هو أيضًا ينتمي إلى تلك المنطقة. وكنت مصيبة في ذلك. وما أسرع ما تخلّى عن حذره وارتفع عنده منسوب الفضول"، تضيف نوال.
بناء الثقة
كانت مراسلاتنا الأولى تدور حول اختباراتنا المشتركة. وبالرغم من ثروته الطائلة، تبيّن أننا نتشارك في عددٍ من الأمور. تبادلنا قصصًا عن التزلّج في المنتجع السويسري ذاتِ، والدراسة في مدارس بمناهج دوليّة، والأماكن التي يحلو لكلينا زيارتها في لندن.
وهنا بدأ ينفتح شيئًا فشيئًا.
"فعلت شيئًا عندما كنت أكثر شبابًا، وكانت غلطة..."، كتب في إحدى رسائله. "قلت لكِ إسمي الحقيقي، لا يمكنني العودة إلى المملكة المتحدة لشيءٍ جرى هناك".
"السبب الوحيد وراء خوفي هو أنّكِ قلتي لي إنّكِ كاتبة وصحفيّة."
"أنتِ آخرُ من يجب أن أتحدّثَ إليه".
قد تبدو السرعة التي منحني بها ثقته مفاجئة. ولكن يجب ألاّ يغيب عن البال أن فاروق موغِلٌ في العزلة. أسرته كاملة تعيش خارج اليمن، بمَن فيهم طليقته وابنته، اللتان غادرتا بسبب الحرب الأهليّة المدمّرة. إلاّ أنه لا يستطيع زيارة أيٍّ منهما خشية الاعتقال.
لم يسمع أيٌّ من أصدقائه الذين تحدثت إليهم شيئًا عن أخباره منذ فراره. ولكنّهم أجمعوا على التعبير عن الصدمة عندما قرأوا عن موت مارتين وقتها، وقالوا إن ضلوعَه المزعوم يبدو غريبًا عن شخصيّته.
أمّا وقد أصبح فاروق مستعدًّا للإفصاح عن المزيد، صارحتُه بأنني أعمل لدى بي بي سي وبرغبتي في إعداد تقرير عن قصّته.
وما يثير الدهشة أنّ هذا لم يمنعْه عن الكلام.
وعندما طلبتُ إليه أن يشرح ما ورد في رسالةٍ سابقة من أنّه يشعر "بندمٍ كبير"، أجاب:
"أولاً، أنا نادم على الحادث المؤسِف. ثانيًا، متأسّف أنني جئتُ إلى هنا (اليمن)، عندما كان عليّ أن أبقى وأسدّدَ الحساب".
في الوقت ذاته، كنت أجري مقابلات أيضًا مع أشخاصٍ على علاقة بالقضيّة، بمن فيهم والد مارتين وأصدقاؤها المقرّبون. وهذا ما جعل التحقيق واحدًا من أكثر التحقيقات صعوبة بين التي عملت عليها حتى الآن. وبينما كنت أتحدّث إلى الذين دُمّرت حياتهم بموت مارتين، والمتعطشين إلى الأجوبة، ظلّ هاتفي يطنّ مؤشّرًا على ورود رسائل فاروق.
والآن، وقد حصلت أخيرًا على فرصة سانحة للاستماع إلى رواية فاروق عمّا حدث تلك الليلة، وأنا أحاول بالمراسلة منذ شهر تقريبًا، أن أنقّب عن الحقيقة بشكلٍ مباشر.
نوال: "هل تريد أن تخبرني بما حدث؟"
فاروق: "لا أدري ما الذي حدث، فكلّ شيء ضبابيّ عندي."
فاروق: "تأتيني ومضات من الذاكرة بين حين وآخر."
فاروق: "مثلًا إذا ما شممت رائحة عطرٍ نسائي معيّن، ينتابني شعور بعدم الارتياح."
أخيرًا تحدّثت إليه عبر الهاتف. سألته ما إذا كان مستعدًّا للعودة إلى المملكة المتحدة لمواجهة نتائج مقتل مارتين.
"لا أظنّ أن العدالة سوف تتحقّق"، قال لي مرّة. "في اعتقادي أن نظام العدالة الجنائيّة هناك [في المملكة المتحدة] منحاز إلى درجة كبيرة. وأعتقد أيضًا أنهم يريدون أن يجعلوا منّي أمثولة للغير، كوني ابنَ عربيٍّ، بل وابن رجلٍ ثريّ... لقد تأخّر الوقت لذلك".
سافرت إلى اليمن في محاولةٍ للالتقاء به شخصيًّا، ولكنّه قال لي، بعدما وصلت إلى هناك، إنّه يفضّل أن يتمّ اللقاء في منزله - وهي مجازفة لم أكن لأرتكبها.
شرحت له مدى تعطّش والد مرتين إلى الحصول على أجوبة بشأن ما حدث.
"كرجل، وكإنسان صاحب قيم، أظنّ أنّه يجب أن يقوم أحد بذلك"، هذا ما قاله لي خلال مكالمة هاتفيّة. ولكنّه تابع يقول: "هناك أمور من الأفضل عدم المجاهرة بها. في الواقع، إذا لم يكن هناك ما أتذكّره بشأن ما حدث، فليس هناك ما يمكن قوله".
عندما عدت إلى لندن، حاولت مجدّدًا أن أحصل على الحقيقة، فبعثت برسالة نصّية مفادها أني سأكون دائمًا راغبةً في معرفة ما حدث.
أجاب بعدَها: "كان الأمر حادثًا. لا شيء مشينًا".
"حادثة جنسية انتهت بشكلٍ خاطئ".
وتابع يقول: "ما من أحد يعرف لأنني بالكاد أستطيع أن أستجمع أجزاءَ الحادثة".
وردًّا على سؤالي عن الأسباب، أجاب بكلمة مفردة: "كوكايين".
سألته ما إذا كان تحدّث إلى محامٍ هنا (في بريطانيا)، فردّ بالإيجاب.
"ثقي بأنّني في الواقع (...) [كلمة بذيئة]" كما ورد في رسالته [وذلك بسبب] "مغادرة البلاد ونقل الجثّة".
فسألته عن السبب الذي دفعه إلى نقل الجثة من مكانها.
"لست أذكر"، كان جوابه.
ثم سألته ما إذا كان خطرَ في باله أن يسلم نفسه، فقال إن محامين نصحوه بعدم الإقدام على تلك الخطوة، لأنّه "أصبح عرضةً لنيل أقصى العقوبات".
"تأخّر الوقت يا نوال"
كان الوقت قد حان لأن أخبرَ والد مارتين عن تبادل الرسائل بيني وبين فاروق.
شعر والد مارتن بصعوبة الاستماع إلى مكالماتي الهاتفيّة مع فاروق. كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها صوت الرجل المشتبه به في قتل ابنته.
"لا يُبدي أيّ تعاطف، كما هو ظاهر، مع أسرتنا، ولا هو شاعرٌ بالنّدم إطلاقًا أو بأي شيء من هذا القبيل"، كما قال.
ولكنه استدرك قائلًا إن قنوات التواصل الجديدة مع فاروق تجعله متفائلًا بإمكان تحقيق تقدّم.
"أنا متفائل بإمكان تحقيق نتائج في المدى البعيد... لأننا نستطيع التحدّث إليه بعد الآن. أنا مقتنع أكثر من ذي قبل بوجود حلّ لهذه القضيّة. ولكنني آمل أن يكون الحل وفقًا لمعاييري الأخلاقيّة".
وعمّا إذا كان يريد توجيه كلمة لفاروق، قال: "عُد إلى المملكة المتحدة. أخبِرنا عمّا حدث لمارتين. لأنّه فضلًا عن أن مارتين تستحقّ ذلك، فإن عائلتنا أيضًا تستحقّه".
"الصّواب الوحيد الذي يمكن فعله هنا، بطبيعة الحال، منحُنا شيئًا من السّكينة بوضع حدّ للمعاناة لنا ولك أيضًا".