في المعارك التي دارت في الضالع، لعبت طائرات التحالف دوراً حاسماً في تدمير وتجريف المعسكر المنحاز للانقلابيين في الضالع، وأنهت تواجدَ القوات الموالية لصالح والحوثيين في الجزء الجنوبي السابق من هذه المحافظة التي أُنشئت قبل أكثر من ثلاثة عقود، فيما بقي الانقلابيون يسيطرون على الجزء الأهم من المحافظة، والذي كان قد أضيف إليها بعد تأسيسها، ويضم تحديداً مديريات قَعطَبة ودَمتْ وجُبن الغنية بالبشر والثروات الزراعية والطبيعية.
بقي عيدروس الزُّبيدي ومعظم الحراك الجنوبي على علاقة جيدة بجماعة الحوثي، تعود إلى شراكة مبدئية تأسست برعاية طهران في الضاحية الجنوبية، ووُضعتْ لها أهدافٌ وأعداءٌ، فكان من بين أهم أهدافها استعادة الدولة الجنوبية، والذي يقابله استعادة الإمامة الزيدية في الشمال، بقيادة آل الحوثي الجاروديين المتطرفين القريبين من المذهب الجعفري. أما أهم أعداء هذه الشراكة المدعومة من طهران، فهم قوى الربيع العربي، وفي طليعتهم بالتأكيد حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يوصف بأنه الذراع السياسي لجماعة الاخوان المسلمين في اليمن وقوى النفوذ الشمالية المنحازة لربيع اليمن.
كانت المقاومة الشعبية المدعومة من الشرعية، قد نجحت في السيطرة على مديرية دمت في وقت مبكر من عام 2015، لكن قوات عيدروس الزُّبيدي وبالتنسيق مع الإمارات، تخادمت مع قوات الحرس الجمهوري السابقة التابعة لصالح والمسنودة من الحوثيين، لإعادة إسقاط دمت، واقتضى ذلك القيام بخيانة المقاومة وكشف ظهرها بعد انسحاب مخطط من المقاتلين السلفيين وقوات عيدروس، وعلى الفور أطلق الزُّبيد تصريحاتٍ اتهم فيها الإخوان المسلمين بتسليم دمت.
إلى اليوم لا يُخفي عيدروس الزبيدي، الذي أصبح رئيساً للمجلس الانتقالي الجنوبي وعضوا في مجلس القيادة الرئاسي، تخادمه مع الحوثيين، فقد صرح في مقابلة له بثتها الخدمة الإعلامية لمعهد تشاتام هاوس الملكي البريطاني قبل يومين بأن الحوثيين أصبحوا قوة أمر واقع في شمال اليمن، وأنه يتعين التعامل مع هذه الحقيقة، في تسويق خائب لـ"قوى الأمر الواقع" التي تشكلت على هامش الحرب الدائرة في اليمن بدعم كامل من التحالف.
تصريحات كهذه تمثل خروجاً عن الالتزام الذي أبداه مجلس القيادة الرئاسي الذي تشكل على إثر الإطاحة بالرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي، وكان من بين أهم أهدافه استعادة الدولة سلماً أو حرباً.
لكن من الواضح أن تصريحاً كهذا، إنما يعكس حالة الإحباط التي يعيشها عيدروس الزُّبيدي، خصوصاً بعد "فتح المكلا"، والذي لم يهنأ بنتائجه السياسية، فقد سارعت الرياض إلى استدعائه من ذات المدينة، هو وعضو مجلس القيادة الرئاسي عن حضرموت اللواء فرج البحسني، الذي انضم للانتقالي وأصبح نائباً لرئيسه، واللذين اعتقدا بأنهما يضعان بالفعل اللبنة الأخيرة في صرح "الدولة الجنوبية" التي تتكئ إلى ثقل حضرموت البشري والمادي.
هذا الاستدعاء تزامن مع وجود مكونات حضرمية أحضرتها الحكومة السعودية على عجل، وأدخلتها في مشاورات استمرت شهراً كاملاً، وخرجت قبل أيام بـ"الوثيقة السياسية والحقوقية"، وشكلت مجلساً استقلالياً جديداً اسمه "مجلس حضرموت الوطني" خالياً من أية إشارة إلى اليمن جنوبه وشماله، وهي محصلة عكست رغبة السعودية في وكبح النفوذ الإماراتي في حضرموت الذي تمارسه عبر المجلس الانتقالي.
إنها صدمة كبيرة، ونقطة تحول أفسدت كل مخططات المجلس الانتقالي، الذراع السياسي والعسكري الذي صنعته الإمارات ووفرت له السعودية على مدى السنوات الماضية من زمن الحرب غطاء سياسياً تحول معه إلى قوة تساهم بتأثير كبير في تشكيل الواقع الجديد على الأرض في اليمن، ووضعت اليمن برمته أمام تطور بالغ الخطورة، يحمل من الدلالات ما تتجاوز خطورتها استهداف المجلس الانتقالي أو الحد من طموحاته السياسية إلى جر اليمن برمته إلى مرحلة التقسيم متعدد الفضاءات السياسية والاجتماعية والجهوية.
هذا التحول تسبب في حالة اختناق حقيقية للزُّبيدي، الزعيم الانفصالي الطارئ خلال تواجده منبوذاً في الرياض، فدبرت له الإمارات مخرجاً يتنفس من خلاله، وهو السفر إلى لندن تحت غطاء المشاركة في جلسات نقاش ينظمها معهد تشاتام هاوس الملكي البريطاني، على نحو يثير التساؤلات بشأن مصداقية هذا المعهد العريق، الذي يتحول اليوم إلى جزء من الأجندة العدائية لصناعة الفوضى في اليمن.
لا أحد يجادل في المكانة البحثية المرموقة التي يتمتع بها معهد تشاتام هاوس الملكي البريطاني، الذي لطالما أفرد مساحة للنقاش حول اليمن، وكان المشاركون شخصيات رفيعة في الدولة اليمنية وخبراء من الوزن الثقيل. هذا المعهد بالتأكيد يعكس جانباً من أجندة بريطانيا في اليمن؛ بصفتها بلدا احتل الجزء الجنوبي من البلاد لنحو قرن ونصف تقريباً.
لكن ما مغزى وجود شخصيات إماراتية في ندوة خصصها المعهد عن اليمن، إن لم تكن هذه الندوة قد مُولتْ بالكامل واختُرعت أصلاً لتحقيق هدف واحد وهو تأمين منبر للمجلس الانتقالي وزعيمه ليواصل الحديث عن الانفصال وعن حق "دولة الجنوب العربي" المزعومة في فك الارتباط عن اليمن؟ في حين أن "الوقائع على الأرض" التي يعتد بها المجلس الانتقالي، تتشكل مرة أخرى لتسفر عن واقع جيوسياسي يضرب في الصميم وحدة المشروع الانفصالي، ويضع أمامه تحدياً عميقاً، يتمثل في خروج أكبر محافظات الجنوب والشرق من حسابات المشروع الانفصالي، وتحولها إلى قوة أمر واقع متسلحة بكل الإمكانيات التي سبق للتحالف أن وضعها بيد الانتقالي ومشروعه.