هذه الظاهرة ليست مجرد جهاز أمني عابر، بل تمثل تحولا عميقا في بنية العنف اليمني، إذ نقلت المرأة من كونها رمزا للحياة والرعاية، إلى أداة تستخدمها الجماعة في القمع والسيطرة وإعادة تشكيل المجتمع وفق أيديولوجيتها المستوحاة من إيران.
من هن الزينبيات؟
الزينبيات هن جهاز نسائي عقائدي وأمني، جرى تأسيسه على غرار "الباسيج النسائي" في إيران.
وينقسم التشكيل إلى أربعة أقسام رئيسية "القسم العسكري، القسم الإلكتروني المعني بالدعاية والمراقبة، قسم الاعتقالات، وقسم التجسس الوقائي المكلف بجمع المعلومات عن المجتمع ومؤسساته".
وتشرف على هذه الأقسام قيادات نسائية بارزة من عائلات حوثية نافذة، من بينهن فاطمة حسين بدر الدين الحوثي، ابنة مؤسس الجماعة، التي تشغل منصب نائبة جهاز الأمن والاستخبارات لقطاع المرأة والمنظمات، وابتسام المتوكل المشرفة على التعبئة في الجامعات، وهدى العماد التي تلعب دورًا محوريًا في عمليات التجنيد داخل الوسط الأكاديمي (PTOC-YEMEN).
ويُقدّر عدد عناصر الزينبيات بنحو 4 آلاف امرأة، يعملن خارج إطار الشرطة النسائية الرسمية، واختير الاسم "الزينبيات" بعناية ليحمل رمزية دينية مرتبطة بالسيدة زينب بنت علي، مما يوفر غطاءً عقائديا يسهّل تجنيد الفتيات والنساء، ويمنح الجهاز شرعية في بيئة شديدة المحافظة.
الأدوار الميدانية للزينبيات
أولاً: القمع المباشر. وثّقت منظمات حقوقية حوادث اقتحام منازل ناشطات في صنعاء والحديدة من قبل مجاميع نسائية، كان أشهرها مداهمات "المدينة الليبية" في العاصمة عام 2018، حين تم اعتقال طالبات جامعيات وضربهن أمام أسرهن وكذلك ما حدث من اعتقالات في جامعة صنعاء 2017، أو اقتحام حفل زفاف في الحديدة 2019 (هيومن رايتس ووتش 2019؛ وغيرها).
هذا الدور منح الحوثيين قدرة على كسر الأعراف الاجتماعية التي كانت تشكل حاجزاً يمنع الرجال من مواجهة النساء وجهاً لوجه.
ثانياً: الرقابة المجتمعية: تتواجد الزينبيات في حفلات الأعراس النسائية، حيث جرى تسجيل حالات تفتيش للهواتف والاعتقال بسبب مقاطع أغاني اعتبرت "منافية للهوية الإيمانية" (منظمة العفو الدولية 2018)، كما تواجدن في الأسواق الشعبية مثل "سوق الحصبة" بصنعاء و غيره من اسواق المدن اليمنية، بهدف جمع المعلومات ورصد أي نشاط معارض.
ثالثاً: التعبئة الفكرية:
إلى جانب القمع، تقمن بعقد دورات مغلقة للفتيات، خصوصاً في المدارس الخاصة و الحكومية، حيث يُدرّسن خطابات مرتبطة بـ"الولاية" وبالمظلومية التاريخية لآل البيت، بما يضمن إنتاج جيل جديد مؤدلج على الولاء للحوثيين.
رابعاً: الحرب النفسية:
إن رؤية نساء يقتحمن البيوت ويقمن بتفتيش النساء جسدياً خلقت صدمة عميقة داخل المجتمع اليمني المحافظ، وزرعت خوفاً مضاعفاً، لأن الأمر تجاوز كل الأعراف والقيم التقليدية.
آليات التجنيد
اعتمد الحوثيون على خليط من الترغيب والترهيب، و هناك نساء انخرطن بدافع مادي، حيث تمنح لهن مرتبات بسيطة أو امتيازات غذائية، بينما جرى الضغط على أسر فقيرة لتسليم بناتهن. و الجانب الأخطر هو التعبئة الدينية، إذ يتم استدعاء نموذج السيدة زينب في كربلاء لتبرير مشاركة النساء في "النضال"، مما يمنح هذا التشكيل غطاء عقائدياً صلباً.
في بعض الحالات، وثّقت منظمات محلية عمليات تجنيد قسري لفتيات قاصرات من أسر فقدت معيلها في الحرب.
الأبعاد النفسية والاجتماعية
ظاهرة الزينبيات تركت ندوباً نفسية عميقة، خصوصاً لدى النساء اللواتي تعرضن للضرب والإهانة على أيدي نساء مثلهن. هذا خلق ما يمكن وصفه بـ"إذلال مزدوج"، إذ لم يعد القمع يأتي من الرجل المسلح فقط، بل من نساء جرى تحويلهن إلى أدوات قمع، فهذه التجربة أحدثت ما يشبه "انكسار الحماية النفسية" للمرأة اليمنية، التي كانت ترى في النساء المحيطات بها دائرة أمان اجتماعي.
أما على المستوى الأسري، فقد أدى تجنيد الفتيات إلى صدام داخل البيوت. هناك شهادات من أسر في صنعاء ذكرت أن بناتهن اللواتي التحقن بالزينبيات أصبحن يفرضن رقابة حتى على أفراد أسرهن، ويهددن بالإبلاغ عن أي مواقف معارضة، و هذا الامر أحدث شرخاً في الثقة العائلية وأدخل الخوف إلى داخل البيت اليمني، الذي كان دائماً خط الدفاع الأخير للمجتمع.
الآثار طويلة المدى
حتى بعد انتهاء الحرب، ستظل تداعيات هذه الظاهرة قائمة، فوجود آلاف النساء اللواتي مررن بتجربة القمع والتجنيد سيطرح تحدياً اجتماعياً ضخماً في إعادة دمجهن في المجتمع.
التجارب المقارنة تشير إلى ذلك، ففي العراق واجه المجتمع صعوبات كبرى في إعادة دمج النساء اللواتي خدمْن في "الحشد الشعبي" أو "الداعشيات"، وكذلك في نيجيريا مع فتيات "بوكو حرام".
في الحالة اليمنية، ستكون مهمة إعادة تأهيل وإعادة دمج الزينبيات أعقد، لأن المجتمع اليمني بطبيعته شديد الحساسية تجاه دور المرأة، مما قد يقود إلى عزلة اجتماعية طويلة الأمد، أو إلى تكوين شبكات سرية تبقى مرتبطة بالفكر الحوثي حتى بعد نهاية الحرب.
مقارنات دولية
لم تكن ظاهرة الزينبيات معزولة. ففي إيران، وُظِّفت "الباسيج النسائية" للرقابة والتعبئة منذ ثمانينيات القرن الماضي، فيما أسس تنظيم داعش "كتيبة الخنساء" التي لعبت دوراً موازياً في الرقة والموصل. لكن الاختلاف الجوهري في اليمن هو أن المجتمع لم يعرف قط انخراط النساء في أدوات القمع، ما يجعل التجربة الحوثية أكثر خطورة على النسيج الاجتماعي، لأنها تقلب صورة المرأة رأساً على عقب.
خاتمة
إن الزينبيات لسن مجرد ميليشيا نسائية، بل مشروع أيديولوجي كامل يهدف إلى إعادة صياغة المجتمع اليمني من الداخل، إن خطورة هذه الظاهرة أنها لم تقتصر على القمع المباشر، بل تعدته إلى إحداث خلخلة نفسية واجتماعية عميقة ستستمر آثارها إلى ما بعد انتهاء الحرب.
رغم أن الحوثيين استعاروا الفكرة من إيران، ونجحوا في توظيفها محلياً لتجاوز الحواجز الاجتماعية والتغلغل في البيوت والمناسبات الخاصة وتجاوزوا الأعراف اليمنية المتوارثة التي كانت تحكم البيئة اليمنية ومصطلحات العيب الاسود من انتهاك حرمة المنازل والتعرض للنساء، إلا أن الحوثي ضرب بكل هذه الأعراف الاجتماعية و التقاليد عرض الحائط وهو ما يجعل من "تأنيث القمع" في اليمن سابقة خطيرة في المنطقة، وجرحاً غائراً في جسد المجتمع اليمني سيحتاج إلى عقوداً من التعافي.
المراجع:
تقارير فريق الخبراء الدوليين بشأن اليمن – مجلس حقوق الإنسان 2019.
منظمة العفو الدولية: النساء في دائرة القمع الحوثي 2018.
هيومن رايتس ووتش: الاعتقالات والمداهمات بحق النساء 2019 – 2020.
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية: دور النساء في النزاع اليمني 2020 – 2021.
شهادات ميدانية لناشطات يمنيات نُشرت في الصحافة المحلية (المصدر: الموقع بوست 2018، المصدر أونلاين 2019).
تقارير إعلامية: العربية نت 2017، الجزيرة نت 2017.
أ.د.عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي