بودكاست ثمانية والأخطاء الفادحة مع السعيدي

آب/أغسطس 20, 2025

أ.د. عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني

إن إعداد أي برنامج بودكاست جاد يفترض أن يقوم على معرفة رصينة وتهيئة دقيقة، غير أن ما ظهر في حلقة بودكاست ثمانية مع السعيدي انطوى على مغالطات خطيرة أثارت الاستغراب والاستفزاز. ولست أرى في نقد برامج البودكاست التي تتناول تاريخ اليمن رفاهية فكرية، بل ضرورة معرفية. فأخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتحول الجهل المركب إلى سردية يستهلكها المتلقي العربي، وهذا ما وقع فيه معد ومقدم بودكاست ثمانية.

لقد بدا المقدم سطحيًا في فهمه لتاريخ اليمن وتركيبته المعقدة، فلم يُحسن إدارة الحوار، وترك ضيفه السعيدي يبحر في التاريخ وكأنه يتعامل مع صفحة بيضاء بلا ذاكرة، وهكذا مررت مغالطات كبيرة وقراءات مشوهة كان يفترض التصدي لها لا تبنيها.

تاريخ اليمن لا يمكن أن يُختزل في بضع سطور أو يُروى من منظور أحادي، فهو تاريخ تداخلات قبلية واجتماعية بالغة التعقيد، حيث لا ينفصل السياسي عن القبلي، ولا الديني عن الاجتماعي، وكل مرحلة من مراحله حملت طبقات متشابكة من الصراع والتوافق والتحالف والانقسام. ومع ذلك، فقد بدا السعيدي في حديثه وكأنه يخلط الحابل بالنابل، ممارسًا نوعًا من التبسيط المخل، بل واقعًا في أخطاء معرفية خطيرة.

ومن هذه الأخطاء التاريخية: فالملوك الرسوليين مثلًا كانوا يدّعون انتسابًا للملك اليمني جبلة بن الأيهم، وانشقوا عن الدولة الأيوبية في آخر أيامها، بينما السعيدي ينسبهم قسرًا إلى الأمويين. ومن بعدهم جاء الطاهريون، الذين حكموا بعد بني رسول، وكانوا آخر أتباع الأيوبيين في اليمن. والأيوبيون كانوا قد خلفوا الفاطميين في مصر، غير أن نفوذهم في اليمن تلاشى سريعًا. ومن المهم هنا التنبيه إلى أن الدولة الطاهرية لم تكن مجرد امتداد باهت للرسوليين، بل خاضت تحالفات كبرى؛ إذ تحالفت مع دولة المماليك في مصر لصد البرتغاليين في البحر الأحمر وخليج عدن، في لحظة تاريخية فارقة تعكس موقع اليمن الاستراتيجي في مواجهة أطماع القوى البحرية الأوروبية.

أما السعيدي فقد نسب الطاهريين خطأً إلى الفاطميين، بينما الحقيقة التاريخية المؤكدة أنهم أقاموا تحالفًا مع المماليك في مصر لمواجهة البرتغاليين في البحر الأحمر وخليج عدن، مع وجود تنافس بينهم على السيطرة على مكة والمدينة.

إن أخطر تلك الأخطاء التي ذكرها السعيدي في هذا البودكاست هو إعادة تدوير المزاعم الغربية القديمة عن استخدام القوات المصرية للأسلحة الكيماوية في اليمن إبان عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ودعم مصر لثورة الشعب في اليمن ضد الإمامة بين عامي 1962م وحتى 1968م. إن هذه الرواية الكاذبة وُلدت في أجواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب وصراع حركات التحرر ضد الاستعمار وقوى التخلف وروّجتها الصحافة الغربية المناوئة للمد القومي العربي، دون أي دليل أممي أو تحقيق محايد يثبتها. بل إن بعثات دولية مثل الصليب الأحمر لم تؤكد هذه المزاعم، وأشارت إلى أن الإصابات التي شاهدتها لا علاقة لها بالأسلحة الكيميائية.

هذه السردية ليست مجرد خطأ عرضي، بل سقوط معرفي خطير. فهي تكرّس أسطورة سياسية استُخدمت للنيل من الدور المصري في اليمن، متجاهلة أن مصر دفعت ثمنًا باهظًا من دماء جنودها في مواجهة المشروع الإمامي المدعوم إقليميًا. وقد لفتني في هذا السياق ما كتبه سعيد ثابت، إذ أعاد الاعتبار للتاريخ اليمني من خلال تفكيك تلك الدعايات وفضح خلفياتها السياسية. فقبول مثل هذه المزاعم يعني تسطيح الوعي وتغييب السياق الأوسع للصراع في اليمن. فالحديث عن "كيماوي عبدالناصر" ليس توثيقًا للتاريخ، بل إعادة إنتاج لدعاية فقدت صدقيتها منذ زمن.

وهنا أجد أن ما كتبه الصحفي اللامع موسى النمراني على موقع المصدر أونلاين يلخص بذكاء هذه الإشكالية، إذ قال: "بالرغم من أن هذه المعلومات لا صلة بينها وبين لب الموضوع المتمثل في نقد التجربة الجمهورية، إلا أنها مهمة لتكشف لنا صورة الوضع الذي نحن فيه، فالمتحدث شديد التخفف من أي التزام بقواعد السرد التاريخي اللازمة لبناء تصور معرفي كاف للتوصل إلى رأي أو استنتاج".

ومن مظاهر الخلط أيضًا أن السعيدي تعامل مع القبيلة وكأنها مجرد "بقايا بدائية" عرقلت قيام الدولة، بينما الحقيقة أن القبيلة كانت – وما زالت – بنية اجتماعية عميقة أسهمت في تشكيل المجال السياسي لليمن عبر القرون. فالقبيلة لم تكن مجرد رابطة دم، بل منظومة قانونية – عبر الأعراف – تمارس العدالة وتحفظ التوازن الاجتماعي في غياب الدولة أو ضعفها. وكانت تراتبية القبيلة قائمة على موقع الشيخ باعتباره رمزًا جامعًا، لكن سلطته لم تكن مطلقة، بل محكومة بالرضا الجمعي للقبيلة ومحدودة بقدرة بقية الأعيان والوجهاء على كبح أي انحراف في سلوكه. هذه الخصوصية ميزت البنية القبلية اليمنية عن كثير من المجتمعات العربية الأخرى.

لقد شهد اليمن تداخلًا دائمًا بين القبيلة والدولة. ففي حين استعانت الدول اليمنية الكبرى – كالرسوليين والطاهريين – بالقبائل لتثبيت الحكم أو خوض المعارك، فإن القبيلة في المقابل كانت تسعى للاستفادة من موارد الدولة لتعزيز مكانتها. أما الإمامة الزيدية فقد دخلت في صراع طويل مع القبائل، لأنها حاولت فرض شرعية دينية فوق البنية القبلية، وهو ما قوبل بالرفض المتكرر. ولذا شهد تاريخ اليمن دورات متعاقبة من التمردات القبلية ضد الأئمة، وأحيانًا تحالفات عابرة فرضتها الظروف، لكن لا يمكن القول إن القبائل استسلمت للإمامة أو قبلت بها كحاكم مطلق.

ومن المهم التأكيد على أن ما يردده البعض – ومنهم السعيدي – من أن "الزيدية حكمت اليمن فترات طويلة" لا يعكس الواقع التاريخي. فالزيدية لم تحكم اليمن ككيان موحد قط، بل سيطرت على أجزاء محدودة من الهضبة الشمالية (صعدة، صنعاء أحيانًا، وما جاورهما)، بينما بقيت مناطق واسعة – تهامة، حضرموت، عدن، تعز – خارج نفوذها وخاضعة لدول وسلطنات مستقلة أو لحكم عثماني ومملوكي. إن هذا التبسيط المخل لا يطمس فقط حقيقة الصراع بين الإمامة والقبائل، بل يتجاهل حقيقة أن القبائل كانت في معظم الأحيان هي القوة التي حدّت من تمدد الإمامة، وحافظت على بقاء التوازنات الداخلية في اليمن.

وإذا وُضع هذا الخطأ في سياق أوسع، اتضح أن حملات الدعاية التي تلصق تهم استخدام الأسلحة المحرمة غالبًا ما تُوظف في معارك السياسة الدولية أكثر مما تستند إلى أدلة دامغة. إن إعادة إنتاج أسطورة "كيماوي عبدالناصر في اليمن" ليست بريئة، فهي تنتمي إلى نمط متكرر في الصراعات الدولية، حيث تتحول التهم الكبرى إلى أدوات لإضعاف الخصوم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام. من هنا فإن خطأ السعيدي في البودكاست لا يقتصر على تشويه التاريخ اليمني، بل يساهم في تكريس عقلية الاستسهال التي تجعل من الدعاية بديلًا عن التوثيق، ومن الوهم بديلًا عن الحقيقة.

والأخطر من ذلك أن تمرير مثل هذه المغالطات عبر الإعلام الجديد، كالبودكاست، يمنحها طابعًا عصريًا يوحي بالموت المعرفي وسطحية الإعلام الحديث.

من هنا فإن خطأ السعيدي في البودكاست لا يقتصر على تشويه التاريخ اليمني، بل يساهم في تكريس عقلية الاستسهال التي تجعل من الدعاية بديلًا عن التوثيق، ومن الوهم بديلًا عن الحقيقة.
والأخطر من ذلك أن تمرير مثل هذه المغالطات عبر الإعلام الجديد، كالبودكاست، يمنحها طابعًا عصريًا يوحي بالموثوقية عند الأجيال الشابة. وهكذا يتلقون تاريخًا مشوهًا مغلفًا بوسائط حديثة، مما يضاعف مسؤولية صناع المحتوى. فالإعلام الجديد إن لم يقم على معرفة راسخة وتوثيق دقيق، فلن يكون سوى قناة لإعادة تدوير الجهل وتحويل الأخطاء إلى وعي زائف يترسخ في الذاكرة الجمعية.
إن مسؤولية صناع البودكاست أكبر من مجرد إدارة حوار أو تسويق فكرة؛ إنها مسؤولية أخلاقية ومعرفية تجاه وعي الأمة وذاكرتها. وأي استسهال في هذا المجال ليس مجرد هفوة إعلامية، بل جريمة معرفية في حق التاريخ والوعي العام.

المراجع والمصادر:

Dresch, Paul. A History of Modern Yemen. Cambridge University Press, 2000.

Halliday, Fred. Revolution and Foreign Policy: The Case of South Yemen 1967–1987. Cambridge University Press, 1990.

Burrowes, Robert D. Historical Dictionary of Yemen. Scarecrow Press, 2010.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تقارير البعثة الطبية في اليمن (1967)، أرشيف الصليب الأحمر – جنيف.

United Nations Mission to Yemen, Reports on Alleged Use of Chemical Weapons (1967).

سعيد ثابت، "أسطورة الكيماوي في حرب اليمن"، منشور في عدة صحف ومواقع عربية.

موسى النمراني، "مغالطات السعيدي في بودكاست ثمانية"، المصدر أونلاين.

مقالات في صحيفة الأهرام المصرية (1967–1968) حول نفي مزاعم استخدام الكيماوي في اليمن.

أحمد جابر عفيف، اليمن والبرتغاليون في القرن السادس عشر، دار العودة، بيروت، 1982.

الحداد، محمد بن علي "تاريخ اليمن في الإسلام"، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1990.

القبائل والدولة في اليمن. ريم مجاهد. إصدارات مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية 2022م.

Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro