مقال رأي - بقلم فهمي محمد
هكذا كانت الصورة تُبَثُّ في أعياد ثورة الـ 26 من سبتمبر إلى كل بيت في اليمن، وهكذا كان هو المشهد الذي أراد الرئيس صالح أن يرسخه في أذهان اليمنيين: صورة جيش عظيم موحَّد، قادر على حماية الوطن والنظام الجمهوري. لكن وراء هذه الصورة كان يتشكل واقعٌ أكثر مرارة ومأساوية على مستقبل اليمنيين، وقد حذر منه
في كل مناسبة وطنية، كانت الكتائب العسكرية تسير في ميدان السبعين، والأعناق تلتفت نحو المنصة، والعيون تحدّق في القائد الذي كان يستمتع بـ"هيلمان العرض والسلاح" وتحليق الطيران فوق رؤوس الحاضرين.
غير أن هذا لم يكن احتفاءً بتحقيق الوطن الذي حلم به اليمنيون شمالاً وجنوباً منذ ثورة سبتمبر وأكتوبر، وحتى بعد تحقيق الوحدة اليمنية 1990،بل كان تمجيداً للرئيس الذي لم يفرق قط بين نيل المجد في التاريخ وحيازة التمجُّد في الزمن، حتى ولو خدمته الظروف وانهمرت عليه الصدف.
منذ أن صعد إلى رأس السلطة في يوليو 1978 خلفاً للرئيس أحمد الغشمي، أسس صالح بعناية فائقة لفصل الجيش والأمن عن مفهوم الدولة، لأن هدفه كان تمكين سلطته السياسية من ابتلاع دولة المؤسسات التي ظهرت ملامحها مع تجربة الشهيد إبراهيم الحمدي التي استمرت من 1974 إلى 1977 وغابت في عهده، لكنها تحولت عبر سنوات الكفاح الحزبي إلى مشروع دولة وطنية ديمقراطية في عام 1990 (دولة الشعب في الشمال والجنوب)، لاسيما بعد أن حضر الجنوب اليمني بمشروعه الوطني كطرف وشريك أساسي في الوحدة اليمنية، بفضل الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
الوحدة لم تمنح اليمنيين فرصتهم التاريخية المتعلقة بالمستقبل المتصالح مع فكرة التغيير الوطنية فحسب، بل على أساس تقدمية هذا المستقبل، دخلت اليمن لأول مرة في تاريخها في معادلة صراع حقيقي جاد يتعلق بسؤال السلطة التاريخية والدولة الوطنية: وأين منهما ينبغي أن تكون الحاكمة في مستقبل الوحدة اليمنية؟ وهل اليمن، مع فكرة التغيير الوحدوية ={الوطنية الديمقراطية}، ينبغي أن تُحكم بسلطة العقل السياسي الحزبي أم بسلطة العقل السياسي التاريخي؟ طالما وأن المرجعيات السياسية والدستورية الموقَّع عليها بين الشمال والجنوب ( مثل دستور 1990 واتفاقية الشراكة والاندماج ) قد جعلت الديمقراطية رديفاً سياسياً للوحدة اليمنية.
مع هكذا فرصة تاريخية سانحة لليمنيين، لم يقف صالح ={رئيس الجمهورية اليمنية} في صف الدولة الوطنية ولم ينتصر للعقل السياسي الحزبي، بل وقف في صف السلطة والعقل السياسي التاريخي، (لم يكن معنيّاً بصناعة المجد ونيله في تلك اللحظة التاريخية بقدر ما كان مهووساً بالبقاء على رأس السلطة).
ومن أجل انتصار توجهه السياسي، لم يكتفِ بتسريح وحدات الجيش القادم من الجنوب بعد حرب صيف 1994 الأهلية، بل استمر في تجريد الجيش في الشمال من عقيدته القتالية الحقيقية، وحوّله إلى أداة في صراعاته السياسية. خصوصاً منذ حرب 1994م، وما بعدها، حيث تمكن من إحكام سيطرته العائلية على الجيش والأمن، من خلال تعيين أقاربه في المناصب العسكرية والأمنية الحساسة، بعد أن تمكن من إزاحة الخصوم والحلفاء. وليس بغريب أن يعبّر عن ذروة انتصاره للسلطة على الدولة في اعترافه الصادم الذي لا يمكن نسيانه، عندما قال للصحفي أحمد منصور على شاشة الجزيرة في عام 2007: "إن جيشه مُعَدٌّ لقمع الشعب مثل بقية الجيوش العربية".
جملةٌ لو نطق بها أي زعيم في العالم لكانت سبباً في محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، ناهيك أن تقال من رئيس دولة دستورها ملتزم بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. لكنها في عهد صالح تحولت هذه الجملة المدوية – في نظر حزبه وأنصاره – إلى "حنكة سياسية" و"شجاعة" لا يمتلكها أي رئيس في العالم!
حتماً، الكتابة في سطور هذه المقالة لا تطارد الرئيس صالح بشخصه بدوافع سياسية حاقدة عليه، ولا تهدف إلى محاكمته دستورياً وقانونياً، لأن ذلك لم يعد ممكناً حتى أمام القضاء بعد موته؛ لكنها بدون شك تطارد الصورة الحقيقية للجيش اليمني الذي تشكل على يديه، ولم يتتلمذ قط في مدرسة التكوين السياسي الوطني خلال فترة حكمه التي تجاوزت ثلاثة عقود من الزمن. خصوصاً وأن مثل هذه الفترة كانت كافية لبناء جيش وطني قادرٌ على حماية الثورة والجمهورية والتصدي لأي انقلاب على مكتسباتهما، لكنه لم يشأ ذلك، وقال بعظمة لسانه: «إن جيشه مُعَدٌّ لقمع الشعب»، وليس لحماية مكتسبات الشعب اليمني. ومع ذلك، كان حريصاً على ترك صورة الجيش تبيع الوهم لليمنيين في كل مناسبة وطنية، أعني عروضاً عسكرية توهم اليمنيين بأن لديهم جيش قادرٌ على حماية الثورة والجمهورية والوحدة اليمنية.
في المجتمعات الأكثر تقليديةً، تكون معركة الوعي السياسي والفكري أبطأ وأقل تأثيراً في مخرجاتها العملية، وفي المقابل تكون الصورة الإعلامية هي الأكثر تأثيراً على ثقافة العوام. لذلك نجد العديدَ ممن حولنا، حتى بعض المثقفين والسياسيين، يتغنون اليوم بصورة العروض العسكرية التي كانت في عهد صالح، وأكثر من ذلك، لسان حالهم يقول: هذا هو جيش اليمن الذي بناه صالح ثم جاءت ثورة الشباب لتدمره! إنها جدلية الصورة والجوهر في معركة الوعي السياسي في اليمن.
لكن السؤال الأكثر إيلاماً وجوهريةً يقول: كيف لمليشيا كهنوتية أن تنجح في الانقلاب وتسيطر على العاصمة صنعاء، إذا كان صالح قد بنى جيشاً وطنياً يستحق الثناء والندم عليه في الوقت الحاضر؟ وهل كان هذا الجيش "العظيم" موجوداً حقاً في فترة حكمه؟ ولماذا غاب دوره عندما كانت الدولة تنهار بكل مؤسساتها أمام جماعة طائفية تحركت من صعدة بـ"الكلاشينكوف" واستولت على معسكراته وسلاحه وعلى السلطة؟
الحقيقة المرة التي تنكشف وراء هذا التناقض الصارخ تكشف أن ما كان يُصوَّر لنا على أنه "جيش وطني" لم يكن سوى وهمٍ كبير. فالجيش الحقيقي، المتجذر في عقيدة الوطن والدولة، لا ينهار بين ليلة وضحاها بمجرد تغيير بعض قياداته، ولا يسلم دباباته وثكناته العسكرية لمليشيات طائفية قادمة من خارج السلطة، كما حصل في اليمن بشكل لم يشهد له التاريخ مثيلاً في العالم.
التاريخ يعلمنا أن الجيوش الوطنية هي من تقوم بالانقلابات العسكرية على الحكام والسياسيون عندما يصلون إلى طريق مسدود في صراعاتهم السياسية، لا أن تذوب كالملح في الماء أمام انقلاب مليشيات قدمت وهي تحمل أحقاد التاريخ وأيديولوجيات مذهبية مناقضة لمفهوم الوطن والدولة. فالجيش المصري، على سبيل المثال، حافظ على تماسكه مؤسسياً رغم تغيير قياداته بعد 2011، لأنه مؤسسة قائمة على العقيدة الوطنية وليس الولاء الشخصي، وكذلك الجيش في تونس.
بناءً على مخيلات الصورة التي ما تزال بعض القنوات الفضائية تبثها اليوم للجيش اليمني في عهد صالح، يروج البعض - وللأسف الشديد حتى بعض المثقفين - لرواية مفادها أن صالح سلم السلطة والجيش للرئيس عبد ربه منصور هادي، وأن هذا الأخير هو من قام بتفكيك الجيش تحت مسمى "الهيكلة". لكن هذه مغالطة خطيرة تتجاهل سؤالاً محورياً يقول : هل يمكن لجيش وطني حقيقي أن يكون سلعة قابلة للتسليم والتسلم والتفتيت؟
الجواب يكمن في ما حدث على الأرض اليمنية في عام 2014م مع انقلاب الحركة الحوثية: الحقيقة أن مؤسسة الجيش لم تتفتت بالمفهوم التدميري كما يروج البعض له، بل سلمت الوحدات العسكرية أسلحتها وثكناتها للحوثيين بسلاسة مذهلة. على سبيل المثال، لواء العمالقة بقيادة العميد محمد الرشيدي في الحديدة، ولواء صافر في صعدة، ولواء الاحتياطي في عمران، والحرس الجمهوري في صنعاء، سلموا أسلحتهم ومعداتهم الثقيلة للحوثيين دون قتال يذكر. لدرجة أن الإعلام الحوثي نفسه بدأ يتحدث عن "دور الجيش واللجان الشعبية" في معاركهم، مقدماً كلمة "الجيش" على "اللجان الشعبية"، مما يؤكد أن أجزاء كبيرة من الجيش تحركت كبنية جهوية في خدمة الحركة الحوثية منذ البداية.
التحليل العميق الذي يتجاوز ذهنية الصورة الاستعراضية إلى حقيقة الجوهر، يشير إلى أن اليمن لم يكن يملك جيشاً احترافياً بالمعنى الحقيقي، بل كان يمتلك مجموعة من المعسكرات والألوية المتفرقة، بُنيت على ولاءات قبلية وجهوية وشخصية عبر عقود من الزمن. لقد كان ما يُسمى بالجيش اليمني عبارة عن إقطاعيات عسكرية تقاسمها شخصان تحولا لاحقاً إلى خصوم: الرئيس صالح من جهة، والفريق علي محسن الأحمر من جهة أخرى. فصالح سيطر على الحرس الجمهوري وقوات الصواريخ والطيران واللواء الأول مدرع، بينما سيطر الأحمر على الفرقة الأولى مدرع ولواء عاطف، مما خلق جيشاً ثنائي التكوين والقيادة في اليمن.
غير أن هناك جامعاً ظل مشتركاً بين هذه الإقطاعيات العسكرية التي تأسست في شمال اليمن بشكل ثنائي، لم يكن هذا الجامع المشترك الولاء لليمن أو الوطن، بل هو الولاء للجهوية السياسية التي تأسست منذ انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وتحولت مع صالح والأحمر إلى عصبية سياسية داخل الجيش اليمني. فالجيش في أحسن أحواله، كان مجرد كتائب ومعسكرات بشرية وأسلحة قابلة للتوظيف السياسي ضد ثنائيته العسكرية عندما يتعلق الأمر بمستقبل السلطة في حسابات صالح وعلي محسن الأحمر، وضد المشروعات الوطنية عندما يتعلق الأمر بمستقبل اليمن في حسابات اليمنيين وكفاحهم.
وإذا كان تسريح الجيش الجنوبي بعد حرب صيف 1994 يعد دليلاً على جهوية الجيش في ظل سلطة صالح - حيث تم تسريح ما يزيد عن 50,000 عسكري من أبناء الجنوب وإقصاء قادتهم - فإن الانقلابات المتكررة على دولة إبراهيم الحمدي في 1977م، ثم على دولة الوحدة في 1994م، وأخيراً على الدولة الوطنية في 2014م، تعد أدلة صارخة على انفصال عقيدة الجيش اليمني عن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية.
عندما اندلعت شرارة الثورة في 2011، وتم إزاحة صالح، ظهر الخلل البنيوي الكامن في تكوين هذه المؤسسة. فالجيش الذي تربى على الولاءات الشخصية والجهوية لم يكن مؤهلاً للوقوف كحصن منيع في معركة الدفاع عن فكرة الدولة وعن الثورة والجمهورية. وعندما بدأ زحف المليشيات من صعدة نحو صنعاء، لم يكن يملك عقيدة قتالية وطنية تحركه، سوى عقيدة السلطة نفسها التي تحالفت مع الانقلاب ضد مشروع الدولة الاتحادية.
حتى علي محسن الأحمر الذي أعلن انضمامه إلى صف الثورة، (ولم ينتقل إليها بالمفهوم السياسي والعسكري) برغم قتاله ضد الحوثيين، لم يكن في حقيقة تكوينه السياسي والثقافي مؤهلاً للقيام بدور وطني ينتصر لمشروع الدولة الديمقراطية. فتحالفات الرجل وتاريخه وايديولوجيته تجعله دائما في معركة الدولة الوطنية الديمقراطية جزءاً من المشكلة وليس الحل.
على هذا الأساس كانت النتيجة حتماً مأساوية على اليمنيين: تحول جيش صالح - أو ما كان يُفترض أن يكون جيشاً وطنياً - من حامٍ للدولة والانتقال السياسي إلى أداة طيعة في يد قوى انقلابية. سلم الجيش ترسانته العسكرية التي قُدِّرت بأكثر من 70% من ترسانة الجيش اليمني، بما في ذلك مئات الدبابات والمدرعات والمدفعيات والمنظومات الصاروخية، للحركة الحوثية (قوى ظلامية) وهو اليوم يعيد رسم صورته التراجيدية في ميدان السبعين بعيداً عن مفهوم الوطن: عروض عسكرية ولكن في ظل الولاء للسيد عبد الملك الحوثي وليس لصالح.
في الختام، هذه المقالة ليست مجرد سردية تاريخية للأحداث في اليمن، بل هي درس قاسٍ في الحقيقة القائلة إن الجيوش الوطنية لا يقاس وجودها بالعروض العسكرية ولا تُبنى بالدبابات والطائرات وحسب، بل تُبنى في المقام الأول بالعقيدة الوطنية والولاء للوطن والشعب وليس للأشخاص الذين يقفون على رأسها.
اليمن اليوم يدفع ثمن عقود من التأسيس الخاطئ -واللاوطني - لمؤسسة كانت - في أحسن أحوالها - مجرد واجهة عسكرية مبهرة، لكنها تهاوت عند أول اختبار حقيقي في مدرسة الولاء لليمن. فهل يعي القائمون اليوم على السلاح والمعسكرات في المناطق المحررة من سلطة الحوثيين، ماذا يعني بناء جيش وطني؟ وما هو الهدف من وجوده في اليمن بعد ثلاث ثورات ووحدة وحروب وتضحيات وثمن تجاوزت العقل والمنطق ؟










