الأزمات المالية في اليمن بين صرفيات النخبة وتعثر رواتب الموظفين: ما حقيقة التحسن الاقتصادي؟

آب/أغسطس 23, 2025

أ.د.عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني| تعز تايم خاص

تعيش اليمن منذ سنوات وضعاً مالياً مأزوماً جعل مسألة المرتبات وانخفاض قيمتها تتصدر المشهد الاجتماعي والاقتصادي في اليمن، فبينما يتحدث مسؤولو الحكومة عن إصلاحات مالية وتحسن نسبي في سعر صرف الريال اليمني مقابل الدولار، يعاني الجنود والمعلمون والاكاديميون والأطباء والمهندسون وغيرهم من موظفي الدولة من تأخر رواتبهم لشهور طويلة تصل أحياناً إلى ستة أشهر وأكثر، وفي المقابل، تُصرف لكبار المسؤولين والقادة العسكريين مخصصات مالية ضخمة بالعملة الصعبة عبر الخزينة العامة أو حسابات خارجية، ان هذا التناقض يثير سؤالاً محورياً: هل ما نشهده هو تحسن اقتصادي حقيقي، أم مجرد محاولات مؤقتة لضبط السوق عبر المضاربة والتحكم الإداري؟

أولاً: صرفيات النخبة بالعملة الصعبة من الناحية العملية، حيث يحصل كبار المسؤولين في الدولة على مرتبات ومخصصات بالعملة الأجنبية (الدولار أو الريال السعودي)، وهو ما يشكل ضغطاً مباشراً على سوق الصرف. هذه الامتيازات ترتبط بشبكة مصالح معقدة تجعل من الصعب على رئيس الحكومة إيقافها حتى لو أراد، إذ أن الولاء السياسي والعسكري بعد الحرب أصبح مرتبطاً بما يتقاضاه المسؤول والقائد، لا بمجرد الانتماء لهذا الوطن، وهذا النمط ليس جديداً في المنطقة، فقد شهد العراق بعد عام 2003 آلية مماثلة حيث ارتبطت ولاءات الميليشيات والقادة بمدى حصولهم على مخصصات بالدولار من الخزينة أو من الدعم الخارجي (انظر: تقرير البنك الدولي عن الاقتصاد العراقي 2014).

ثانياً: مرتبات الجنود المتأخرة حيث نجد ان الجنود هم الحلقة الأضعف في سلسلة الإنفاق العام في اليمن مع ملاحظة عدم توحيد مرتبات الجنود في جميع التشكيلات العسكرية التابعة للشرعية وهو خلل بنيوي كبير ساهمت به دول اقليمية، ولا بد من اعادة النظر في هذا الامر قبل ان يتحول الى عائق رئيسي في دمج هذه التشكيلات العسكرية في وزارة الدفاع التابعة للحكومة الشرعية، إذ غالباً ما تُؤجل مرتبات هؤلاء الجنود لشهور طويلة رغم إعلان الحكومة المتكرر عن توفر الدعم. السبب الرئيس لا يكمن في غياب الموارد فقط، بل في أولوية الصرف التي توجه أولاً إلى الموازنات الخاصة والنفقات الأمنية والسياسية، ثم تأتي مرتبات الجنود والموظفين في آخر القائمة. فتجربة السودان في العقد الماضي تؤكد أن تأخير مرتبات القوات المسلحة لم يكن سببه شح الموارد فقط، بل إعادة توجيه النفقات لمصلحة الأجهزة السيادية ومراكز النفوذ (انظر: Sudan Economic Review, 2019).

ثالثاً: أثر هذه الصرفيات على سعر الصرف إن دفع مخصصات كبار المسؤولين بالدولار يزيد من الطلب على العملة الصعبة ويضعف قيمة الريال، بينما تأخير مرتبات المعلمين والأطباء – التي تُدفع بالريال – لا يضر مباشرة بسعر الصرف، إلا أنه يفاقم الأوضاع المعيشية ويضعف النشاط الاقتصادي المحلي. هذا الخلل البنيوي يجعل الإصلاح النقدي مجرد خطوة شكلية ما لم يُعاد ضبط أولويات الإنفاق. ولعل التجربة اللبنانية خير مثال، حيث انهار سعر الليرة رغم كل محاولات مصرف لبنان في ضبط السوق، لأن النخب السياسية كانت تستنزف موارد الدولة في الخارج (انظر: IMF Report on Lebanon, 2021).

رابعاً: سبب تأخير المرتبات في المحافظات يعود التأخير إلى عوامل متشابكة تتمثل في توقف العائدات السيادية نتيجة توقف تصدير النفط والغاز بشكل شبه كامل منذ 2022 بعد انخفاض الإنتاج تدريجياً منذ 2001م وتفاقم الأزمة بسبب الحرب التي اندلعت عام 2015م، وهو ما حرم الدولة من أكبر مصادر دخلها، إضافة إلى عدم انتظام المساعدات الخارجية التي لا تصل بانتظام، والانقسام السياسي بين صنعاء وعدن الذي يؤدي أحياناً إلى تعطيل متعمد للتحويلات المالية كسلاح سياسي، فضلاً عن الفساد وسوء تخصيص الموارد حيث تُصرف مليارات الريالات في نفقات غير معلنة بينما يبقى الموظف منتظراً راتباً بالكاد يغطي الحد الأدنى لمعيشته.

خامساً: هل التحسن في الاقتصاد حقيقي؟ ما يحدث اليوم في سعر الصرف لا يعكس تحسناً اقتصادياً هيكلياً، بل هو نتيجة إجراءات إدارية مؤقتة مثل تشديد الرقابة على شركات الصرافة وإغلاق بعضها، وضخ كميات محدودة من العملة الصعبة من ودائع سعودية وإماراتية سابقة وهي غير مؤثرة في الكتلة النقدية المتداولة بالسوق بشكل حقيقي، إضافة إلى تقييد بعض الواردات لتخفيف الطلب على الدولار. غير أن هذه الخطوات لا تمثل نمواً اقتصادياً وإنما مجرد مسكنات مرتبطة بالتدخلات النقدية. هذا يذكرنا بما حدث في ليبيا بعد 2017 عندما فرض البنك المركزي إجراءات صارمة على سوق الصرف مما حسن قيمة الدينار مؤقتاً لكن دون تحسن فعلي في الاقتصاد (انظر: Libya Economic Monitor, World Bank 2018).

سادساً: تصدير النفط والغاز من الضبة وبلحاف هناك نوايا معلنة لإعادة تشغيل منشأة بلحاف للغاز المسال، لكن العائق سياسي–أمني بالدرجة الأولى. فالشركة الفرنسية "توتال" والإمارات تمتلكان النفوذ الأكبر في المنشأة، وهناك اشتراطات من قوى محلية وإقليمية بأن لا يستفيد الحوثيون من أي عوائد، وهو ما يعقد الأمر أكثر ويجعل استئناف التصدير رهناً بتوافق محلي–إقليمي–دولي. في حال تحقق هذا التوافق فإن استئناف التصدير سيغير المعادلة فوراً كما حدث في العراق عام 2018 حين تضاعفت موارد الموازنة بعد إعادة تشغيل حقول كركوك (انظر: Iraq Oil Report 2019). أما تصدير النفط من ميناء الضبة (المنتج من قطاعات حوض المسيلة) فهو أسهل من الناحية العملية لكنه يظل مهدداً بسبب المسيرات والصواريخ الحوثية أو رهناً باتفاقات مرحلية. إن البعد الجيوسياسي في هذه الملفات يجعلها ليست قضية مالية فقط بل ورقة نفوذ إقليمي ودولي، وهو ما أكدته تقارير البنك الدولي في 2023 بشأن اعتماد الاقتصاد اليمني على استئناف الموارد السيادية كشرط لأي استقرار نقدي (انظر: World Bank Yemen Update, April 2023).

سابعاً: الإصلاحات المطلوبة والتجارب الإقليمية حتى الآن لا توجد مؤشرات على إصلاحات هيكلية، فالإجراءات المتخذة سطحية ومرتبطة بضبط السوق النقدية، أما الإصلاح الحقيقي فيحتاج إلى استئناف تصدير الموارد السيادية من النفط والغاز ووقف نزيف الإنفاق الخاص للنخبة بما في ذلك المخصصات بالعملة الصعبة والحسابات الخارجية الخاصة التي تستنزف الاحتياطي النقدي، وهذه الممارسة ليست جديدة إذ أثبتت تقارير دولية (Global Witness Report, 2017) استنزاف قادة في أفريقيا الوسطى والكونغو لميزانيات دولهم عبر حسابات خارجية، إلى جانب ضرورة توحيد البنك المركزي من خلال وضع آلية شفافة ومستقلة لصرف المرتبات لجميع المناطق بلا استثناء.

وفي مقارنة إقليمية، توضح التجربة المصرية بعد 2016م أن الإصلاحات القاسية يمكن أن تحافظ على انتظام المرتبات حتى في ظل الضغوط المالية (انظر: IMF Egypt Country Report 2017)، بينما في اليمن، ورغم عدم وجود إصلاحات حقيقية، فإن المرتبات نفسها باتت غير مضمونة ولا تكفي لسد متطلبات الحياة المعيشية بحدها الأدنى. أما التجربة اللبنانية فتمثل مثالاً صارخاً على خطورة سيطرة النخب، فبعد 2019م انهار النظام المالي اللبناني كنتيجة لسنوات من استنزاف الاحتياطيات بالدولار لدعم سعر الصرف بشكل مصطنع بينما كانت النخب تهرب الأموال للخارج، والنتيجة كانت فقدان المواطنين لمدخراتهم وانهيار الرواتب (انظر: IMF Lebanon Article IV Consultation, 2021).

الوضع في اليمن يُشبه لبنان من زاويتين: المضاربة والتحكم المصطنع في سعر الصرف عبر تدخلات إدارية وليس نمواً حقيقياً، وصرفيات النخب بالدولار واستنزافها للخزينة، والفرق الجوهري أن لبنان كان لديه قطاع مصرفي ومجتمع مدني قوي فضح الانهيار عند وقوعه، بينما في اليمن تأتي الأزمة في سياق حرب وانقسام ما يجعل المواطنين بلا أدوات ضغط حقيقية على صانع القرار. وإذا استمرت السياسات الحالية فإن اليمن معرض لتكرار السيناريو اللبناني بانهيار أسرع وأعمق بسبب غياب القطاع المصرفي المؤسسي القادر على امتصاص الصدمات.

في الختام، فإن الحديث عن تحسن الاقتصاد اليمني لا يتجاوز إطار المناورة النقدية، بينما الواقع يشير إلى استمرار الأزمة البنيوية في المالية العامة للدولة، فلا يمكن إنقاذ الريال اليمني أو ضمان انتظام المرتبات إلا بقرارات سياسية جريئة توقف نزيف الامتيازات الخاصة وتعيد توجيه الموارد نحو المواطنين، مع استئناف تصدير النفط من ميناء الضبة والغاز المسال من بلحاف كشرط أساسي لاستعادة التوازن المالي، مع ضرورة القيام بإجراءات تقنية حديثة في تفعيل السياسة النقدية من خلال آلية رقابية على شركات الصرافة واستحداث نظام دفع إلكتروني للمرتبات في القطاع العسكري والمدني لمنع الازدواجية واستخدام أنظمة بيرومترية للقطاعات المختلفة.

Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro