مشهد مأساوي يتكرر كل يوم في مدينة تعز أو في ضواحيها الريفية، في ظل الحصار المطبق عليها منذ صيف 2015 وحتى اليوم، والذي دخل حيز النسيان في إجندة كافة أطراف الصراع المسلح في اليمن أو الدول المعنية بالشأن اليمني، في ظل انشغالهم بقضايا هامشية ومتجددة بعيدا عن الوضع الإنساني الملح.
انشغلت الحكومة اليمنية الشرعية ومن يقف وراءها خلال السنوات الخمس الماضية بموجات الصراع المسلح مع ميليشيا جماعة الحوثي في جبهات المواجهات الملتهبة المحيطة بالعاصمة صنعاء أو بمحافظة الجوف ومأرب والحديدة وغيرها، فيما تجاهل الجميع أو تناسوا أو أنستهم هذه الأحداث حجم الكارثة الإنسانية التي حلّت بمدينة تعز، من حصار بري خانق ودائم من قبل الانقلابيين الحوثيين منذ صيف العام 2015 وما تبعه لاحقا من حصار إماراتي بحري لها باستيلاء قوات تابعة لها على ميناء المخا التابعة لمحافظة تعز.
تفاعل الإعلام المحلي والدولي وبعض المسؤولين الحكوميين قليلا في بادئ الأمر مع هذا الحصار على مدينة تعز وحاولوا لفت أنظار العالم إليه، لكن مع مرور الوقت وبمجرد تسارع الأحداث في بقية المحافظات وفي العديد من الجبهات التي تعد مفصلية في نظرهم والتي تركزت حولها أيضا جهود مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث، خفت الزخم الإعلامي والسياسي حول قضية الحصار المميت على مدينة تعز، التي تعد مركز الثقل السكاني والاقتصادي والثقافي لليمن، والتي دفعت موجات الصراع المسلح بسكانها إلى حافة الهاوية وإلى الموت البطيئ جراء استمرار الحصار عليها وإغلاق جميع المنافذ البرية والبحرية والجوية في وجه سكانها منذ العام 2015 علاوة على ذلك القصف العشوائي الحوثي بالقذائف المدفعية والصاروخية على أحيائها السكنية بين الفينة والأخرى والتي أضافت معاناة أخرى إلى سكانها.
معقل الإنتاج الصناعي
ومدينة تعز اليمنية تقع جنوب العاصمة صنعاء، وتبعد عنها 256 كيلو متراً، وهي مركز أو عاصمة محافظة تعز التي تحتل المركز الأول في إحصائية التعداد السكاني في اليمن، حيث يشكل سكان تعز نحو 12.5 في المئة من اجمالي عدد سكان اليمن وفقا لآخر تعداد سكاني، وتعد محافظة تعز معقل الإنتاج الصناعي والتجاري اليمني ومركز الإبداع الثقافي والعلمي، لما يمثله أبناءها من أكبر نسبة في عدد المتعلمين والحاصلين على الشهادات العلمية العليا، وتمتلك المحافظة شواطئ ساحلية تمتد من منطقة ذباب وباب المندب جنوباً حتى شواطئ الزهاري بمدينة المخا شمالاً، ويقع في الأخير ميناء المخا التاريخي الذي كان مركز تصدير البن اليمني والذي اشتهر باسمه وأصبح ماركة عالمية حتى اليوم (موكا كوفي Mokha Coffee).
ونتيجة لقرب محافظة تعز من مدينة عدن، نال أبناؤها حظا وافرا من التعليم على خلاف غيرها من المناطق الأخرى خلال العهد الامامي البائد الذي انتهى في العام 1962حين كان الاستعمار البريطاني يحتل محافظة عدن ورحل عنها نهاية الستينيات، وأصبحت محافظة تعز تحتضن المخزون البشري من المتعلمين الذين تشربوا الفكر الثوري والتقدمي والسياسي والحزبي منذ النصف الأول من القرن الماضي وهو ما جعل أغلب مؤسسي وقادة الأحزاب السياسية اليمنية الرئيسية ينتمون إليها، من الحزب الاشتراكي إلى الناصري إلى البعث إلى التيارات الإسلامية، وكان لهم دور فاعل ومؤثر في كل دورات الصراع اليمني خلال العقود الماضية.
ومع اجتياح ميليشيا جماعة الحوثي الانقلابية لأغلب المحافظات الشمالية واحدة تلو الأخرى بدون مقاومة من سكانها منذ اجتياحها للعاصمة صنعاء في 21 أيلول (سبتمبر) 2014 وصلت ميليشيا جماعة الحوثي إلى مشارف مدينة تعز في آذار (مارس) 2015 لتحاول السيطرة عليها بمساعدة قوات الأمن الخاصة (الأمن المركزي) الموالية للرئيس الراحل علي صالح، وكذا بمساعدة ألوية القوات العسكرية التابعة للجيش والتي تمردت على سلطة الرئيس عبدربه منصور هادي بتوجيهات من صالح للعمل مع الحوثيين. وقف سكان مدينة تعز من مختلف ألوان الطيف السياسي صفا واحدا ضد الاجتياح الحوثي المسلح لمدينتهم وقاوموه بأدواتهم العسكرية المتواضعة وتشكلت فيها نواة الجيش الوطني وانطلقت منها شرارة المقاومة الشعبية ضد الانقلاب الحوثي على سلطة الدولة وأصبحت تعز نموذج المقاوم المُلهِم للعديد من المحافظات الأخرى التي سارت في خط المقاومة، كما حصل في محافظات عدن ولحج والضالع وإب ومأرب التي كان لها أيضا قصب السبق في المقاومة المبكرة للتمدد الحوثي نحوها.
ومثلما كانت تعز ملهمة المقاومة الشعبية ضد الحوثيين، كانت أيضا منطلق الثورة الشعبية ضد نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في ثورة الربيع العربي عام 2011 لما يحمله أبناؤها سواء المقيمين فيها أو في بقية المحافظات اليمنية من أفكار تقدمية تحررية ضد الاستبداد والتخلف، ولذا اجتمعت ضدها الأحقاد السياسية من قبل علي صالح ومن قبل جماعة الحوثي على حد سواء، وتوحدوا للثأر منها وأجمعوا على تدمير كل مقدراتها البشرية والاقتصادية وغيرها وتوحدوا على حصارها الجائر الذي أحال مدينة تعز إلى سجن كبير، محكم الإغلاق من جميع المنافذ الرئيسية شرقا وغربا وشمالا ما عدى الجنوب الذي تمكنت المقاومة الشعبية والقوات الحكومية من استعادته من قبل ميليشيا الحوثي.
منع حركة المسافرين
وتكالبت خلال سنوات الحرب الراهنة على محافظة تعز العداوة السياسية والحصار المسلح من قبل الحوثيين المدعومين من إيران وبقايا قوات علي صالح بقيادة نجل شقيقه العميد طارق محمد صالح، المدعوم من الإمارات العربية المتحدة، حيث يحاصر الحوثيون مدينة تعز من جهتي الشمال والشرق ويسيطرون على بعض أجزاء المدينة هناك مع بعض المناطق الريفية، فيما تحاصرها قوات طارق صالح من جهة الغرب على امتداد الساحل الغربي التابع لمحافظة تعز وتتخذ هذه القوات من مدينة المخا مركزا لقيادتها، والتي يقع فيها الميناء البحري الوحيد لمحافظة تعز.
وفي حين كان يجمع صالح والحوثيين تحالف عسكري ضد الحكومة الشرعية بقيادة عبدربه منصور هادي حتى نهاية 2017 حين انفضّ ذلك التحالف بمواجهات مسلحة أفضت إلى مقتل الرئيس السابق علي صالح على يد الحوثيين، ما زال الطرفان جماعة الحوثي وطارق صالح، يعملان منفردين ضد الحكومة الشرعية، حيث لا يعترف الأخير بشرعية الرئيس هادي، ويعمل لصالح دولة الإمارات التي يقيم فيها أيضا نجل علي عبدالله صالح، العميد أحمد علي وبقية أفراد عائلة صالح، والذين تسعى أبو ظبي إلى تأهيلهم وتقوية شوكتهم مرة أخرى من أجل إعادتهم إلى سدة الحكم مستقبلا بعد القضاء على الحكومة الشرعية من خلال ما انكشف من المعطيات الراهنة على أرض الواقع.
وبينما يسيطر الحوثيون على مطار تعز الجوي ومنطقة الحوبان الصناعية وأجزاء من الأحياء الجديدة لمدينة تعز من جهة شرق وشمال المدينة، تسيطر قوات طارق صالح على ميناء المخا البحري وتتحكم بحركتها وحولتها إلى منطقة عسكرية وأغلقته كمنفذ بحري وحيد لمحافظة تعز، بالتوازي مع سيطرة ميليشيا المجلس الانتقالي الجنوبي، ذو التوجه الانفصالي بدعم إماراتي، على المحافظات الجنوبية المجاورة لمحافظة تعز وهي محافظات لحج وعدن، والتي أصبحت تؤدي دورا في الحصار أيضا على محافظة تعز، بعد أن خرجت تلك المحافظات عن سلطة الحكومة الشرعية.
وشمل هذا الحصار المطبق على مدينة تعز منع دخول البضائع التجارية بما فيها المواد الغذائية الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية والمشتقات النفطية عبر الطرق والمنافذ الرئيسية بالاضافة إلى منع حركة المسافرين، وهو ما اضطر السكان والسلطة المحلية إلى شق طريق ترابية فرعية عبر المرتفعات الجبلية الواقعة في جبل صبر المطل على مدينة تعز من جهة الجنوب، والذي أصبح الشريان الوحيد لحركة المسافرين من تعز إلى المناطق والمحافظات الشرقية والشمالية، بالإضافة إلى طريق الضباب الاسفلتي باتجاه الريف الجنوبي لمحافظة تعز والذي يمتد إلى محافظتي لحج وعدن عبر سلسلة جبلية غاية في الخطورة، والذي أصبح الشريان الوحيد لدخول البضائع وحركة المسافرين من وإلى مدينة تعز والمناطق الريفية التابعة لها.
المساعدات الإنسانية
وفي ظل هذا الحصار تحولت مدينة تعز من ثالث أكبر مدينة عامرة بالحيوية والنشاط في اليمن بعد العاصمة صنعاء ومدينة عدن، إلى قرية كبيرة تنعدم فيها أغلب السلع الأساسية والخدمات الضرورية، حتى أن الكثير من الكماليات أصبحت من الماضي وان وجدت فبأسعار خيالية لا تتوازى مع القدرة الشرائية لأغلب السكان الذين أيضا فقدوا مصادر دخلهم وعجزوا عن الحصول على قيمة لقمة العيش ناهيك عن الالتفات لشراء الكماليات، وتحوّل أغلب سكان تعز بفعل الحصار إلى عالة على ما تجود به المنظمات الإنسانية الدولية من فتات المواد الغذائية وبعض المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة كالدواء.
وتسبب الحصار في إفلاس الكثير من التجار وإغلاق الكثير من المحال التجارية، لعدم قدرة أصحابها على الوفاء بالتزاماتهم التجارية وسداد ديونهم المالية بالإضافة إلى إصابة الحركة التجارية بشلل جزئي أعاق إمكاينة نمو وازدهار النشاط التجاري.
محمد الشيباني، أحد التجار المتوسطي الحال، قال لـ”القدس العربي” إن محاله التجارية تعرضت للإغلاق القهري بعد سنوات طويلة من النشاط التجاري المزدهر، وذلك بسبب تعرضه للإفلاس المحقق، لعجزه أولا عن توفير البضائع والمواد الغذائية التي كان يتاجر بها، وثانيا لعدم قدرته على بيع ما تتوفر لديه من مواد وبضائع إثر فقدان السكان للقدرة الشرائية لهذه المنتجات.
ووصلت الخدمات الطبية في مدينة تعز إلى الهاوية إثر خروج أكثر من 70 من المستشفيات والمراكز الطبية عن الجاهزية الطبية، إما بسبب انعدام المواد الطبية الأساسية أو بسبب تعرضها للقصف المدفعي والصاروخي الحوثي أو بسبب نزوح وهجرة الكثير من الأطباء والكادر الطبي عن مدينة تعز، بحثا عن الأمان في دول أخرى والذين تركوا فراغا كبيرا في القطاع الطبي.
وغادر مدينة تعز أغلب الميسورين وكبار التجار مع أفراد عائلاتهم إلى خارج اليمن فيما أجبر أغلب سكانها البسطاء على البقاء فيها يواجهون قساوة العيش ويصارعون مرارة الموت كل يوم، إما بسبب نقص الغذاء والدواء أو جراء سقوط قذائف القصف الحوثي العشوائي المتقطع على المدينة، حيث فقدت محافظة تعز الآلاف من سكانها خلال الخمس السنوات الماضية من موجات الصراع المسلح بالإضافة إلى تعرض الكثير منهم للإصابات البليغة وللإعاقات الدائمة جراء القصف أو انفجار الألغام الأرضية الحوثية في أطراف أجسادهم، وتحولت مدينة تعز جراء ذلك إلى سجن كبير وحقل ألغام مفتوح، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.