لقد نجح الغرب في تطوره الحضاري من خلال قيمه الذاتية، حيث اعتمد على فلسفات فكرية غيّرت نظرة الإنسان لنفسه ولمجتمعه. فالفلسفة الوجودية، مثلًا، جاءت لتصوغ الإنسان وفق قيم جديدة، كإعادة تعريف مفهوم القدر، بحيث يصبح الإنسان فاعلًا في صنع مستقبله، وليس مجرد متلقٍّ لمصير محتوم تحدده قوى خارجية. في المقابل، ظلت العديد من المجتمعات التقليدية خاضعة لمنظومة فكرية تقدّر القدرية والاتكال، مما أدى إلى ترسيخ الجمود والتخاذل.
إن الإيمان بالذات في صناعة المصير يدفع الإنسان إلى النجاح، حتى وإن تعثر عشر مرات أو مئة، لأنه يدرك أن القدر هو قراره، وليس هناك قوة خارجية تتحكم في مستقبله.
وهذا المفهوم كان أساس النهضة الغربية، حيث قام الأفراد بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بالإصرار والعمل الدؤوب. أما في المجتمعات التي تؤمن بأن الرزق والنصيب مكتوب مسبقًا، فقد أدى ذلك إلى خلق عقلية سلبية تعتمد على الانتظار بدل السعي.
ولذلك، نجد أن الدول التي تؤمن بأن "الله يرزق من يشاء" دون العمل الجاد، غالبًا ما تتراجع اقتصاديًا، بينما ترتفع معدلات الإنتاجية في الدول التي تؤمن بأن الإنسان هو المسؤول الأول عن تحسين ظروفه.
لقد نجح الغرب في بناء مجتمعات متماسكة اقتصاديًا واجتماعيًا لأنه استطاع تفكيك البُنى الثقافية التي كانت تعيق التطور. ومن أهم هذه البُنى التخلص من الاتكالية والتواكل. في المقابل، فإن العديد من الدول النامية لا تزال غارقة في منظومات فكرية تُكرس الاعتماد على الآخر، سواء كان ذلك في صورة حكومات ريعية تعتمد على النفط أو مساعدات خارجية، أو في صورة مجتمعات تؤمن بأن التغيير يأتي من الخارج وليس من داخلها.
وهنا يبرز الفرق الجوهري بين المجتمعات الصناعية التي تبني نفسها بنفسها، والمجتمعات الريعية التي تعيش على ما تنتجه مواردها الطبيعية دون تطوير حقيقي.
يتحدث المفكر علي الوردي، في كتابه مهزلة العقل البشري، عن أن المدنية ترافقها قيم التمرد، وأن عنصر الشر في العالم قد يكون سببًا في دفع البشر نحو التغيير. ويرى أن البداوة والتخلف هما نتيجة للركود الاقتصادي والقناعة التي تكرسها.
ولكن التمرد، في مفهومه، لا يعني السعي إلى الفوضى أو الاستحواذ على السلطة، بل هو رفض الواقع الساكن والسعي إلى التغيير المستمر.
وهذه الفكرة نجدها واضحة في مسيرة التطور البشري، حيث إن المجتمعات التي قبلت واقعها دون اعتراض بقيت متخلفة، في حين أن المجتمعات التي ثارت على واقعها سارت نحو التقدم. فالنهضة الأوروبية، على سبيل المثال، لم تبدأ إلا عندما قرر المفكرون والفلاسفة تحدي الأفكار التقليدية والانطلاق نحو أنماط جديدة من التفكير والإنتاج.
من القيم التي يرى الوردي أنها ضرورية للتطور هي "الأنانية الإيجابية"، وهي الفكرة التي تعلم الأفراد عدم إيثار الآخرين على أنفسهم بطريقة سلبية، بل تدفعهم إلى العمل من أجل تحسين أوضاعهم الشخصية، مما ينعكس إيجابًا على المجتمع ككل. ففي المجتمعات التي تعزز الفردية الإنتاجية، نجد أن الإنسان يسعى إلى تطوير نفسه ومهاراته من أجل تحسين وضعه المعيشي.
أما في المجتمعات التي تكرس ثقافة التضامن العشوائي والمجاملات الاجتماعية، فإن الإنتاجية تتراجع لأن الفرد لا يجد حافزًا كافيًا للعمل الجاد.
إذا نظرنا إلى النهوض الاقتصادي، نجد أنه يتطلب تغييرًا جذريًا في أسلوب التربية، بحيث يتم محاربة البطالة والكسل من خلال تعليم الأفراد قيم العمل الجاد والمثابرة. فالمجتمعات المتصوفة تُعدُّ مجتمعات بدائية لأنها تكتفي بالقليل، ولا تسعى إلى الرفاهية التي أصبحت مرتبطة بقيم التحضر.
إن حركة التاريخ دائمًا ما كانت تصاعدية، حيث يسعى الإنسان منذ العصور البدائية إلى تحسين سبل عيشه، سواء من خلال الصيد، أو الزراعة، أو الصناعة، أو التكنولوجيا الحديثة. ولذلك، فإن أي مجتمع لا يسير في هذا الاتجاه، فإنه محكوم عليه بالتخلف والتراجع.
إذا تأملنا في دول العالم الثالث، نجد أنها جميعًا تشترك في كونها دولًا فقيرة، لا تمتلك بُنى ثقافية صحيحة تدفعها إلى التطور. فعملية التعمير والبناء تعتمد على عوامل متداخلة، أهمها البناء المعرفي والعقائدي الصحيح. فالشعوب التي تؤمن بطاعة ولي الأمر طاعةً مطلقة، دون محاسبة أو مساءلة، لا تؤمن بقيم التمرد والتغيير. والشعوب التي تؤمن بالقدرية لا تؤمن بقيم الاجتهاد والمثابرة.
ولذلك، نجد أن الدول الناجحة اقتصاديًا هي تلك التي تحررت من هذه القيود الفكرية وسمحت لمواطنيها بالإبداع والعمل بحرية.
التصوف، في بعض أشكاله، يُعد ظاهرة خطيرة لأنه يعزز الزهد والانصراف عن الدنيا، مما يقوض قيم العمل والإنتاج. فبينما كان التصوف، في أوقات سابقة، يمثل حالة روحية إيجابية، إلا أن بعض أشكاله الحديثة أصبحت تُستخدم كمبرر للكسل والرضا بالحد الأدنى من العيش. وهذا يتناقض مع روح المدنية، التي تتطلب السعي المستمر نحو تحسين جودة الحياة.
لذلك، فإن أي مجتمع يريد أن يلتحق بركب الحضارة عليه أن يراجع منظومته الثقافية والفكرية، ويتخلص من العقائد التي تعطل قدراته الإنتاجية، ويؤمن بأن العمل والاجتهاد هما السبيل الوحيد للتطور.
إن بناء مجتمع ناجح لا يعتمد فقط على الاقتصاد، بل على تغيير طريقة تفكير الأفراد. فالمجتمعات التي تؤمن بأن مصيرها بيدها، وتتبنى قيم العمل والتمرد الإيجابي، هي التي تستطيع النهوض واللحاق بركب المدنية. أما المجتمعات التي تنتظر التغيير من الخارج، أو تعتمد على الأقدار، فإنها ستبقى متأخرة مهما توفرت لها الموارد. فالتغيير الحقيقي يبدأ من الإنسان نفسه، ومن إدراكه أن مصيره في يديه، وليس في يد قوى غيبية تحدد له طريقه مسبقًا.