منذ مطلع عام 2024، برز البحر الأحمر كساحة صراع مفتوحة، حيث نفذ الحوثيون هجمات متكررة باستخدام طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية ومجنحة على سفن تجارية مرتبطة بإسرائيل أو حلفاء واشنطن، وقد دفعت هذه الهجمات الولايات المتحدة وبريطانيا إلى تنفيذ ضربات جوية مباشرة على مواقع الحوثيين في الحديدة، بالإضافة إلى إعادة تشكيل تحالف بحري دولي لحماية خطوط الملاحة (البنتاغون، تقرير أبريل 2024).
هذا التمركز العسكري للحوثيين على الساحل الغربي لا يمكن النظر إليه باعتباره تحركًا دفاعيًا بحتًا، بل هو جزء من استراتيجية تستهدف السيطرة على خطوط الملاحة من باب المندب وحتى قناة السويس، السيطرة على هذا الممر البحري تمنح الحوثيين نفوذًا استراتيجيًا، وتمنح إيران ورقة ضغط إضافية في مفاوضاتها النووية مع الغرب (معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فبراير 2024).
تتضح العلاقة الإيرانية في هذا الملف من خلال تزامن التصعيد الحوثي مع المراحل الحساسة في المفاوضات النووية أو مع توترات بين طهران وتل أبيب، تقارير إعلامية دولية، مثل وكالة رويترز (مارس 2024)، أكدت أن هجمات الحوثيين على السفن أجبرت شركات شحن عالمية على تغيير مساراتها نحو رأس الرجاء الصالح، وهو ما يثبت أن إيران تستخدم الحوثيين كأداة ضغط بحرية مشابهة لاستخدام حزب الله في لبنان كأداة ضغط برية ضد إسرائيل (كارنيغي للشرق الأوسط، مايو 2024).
المقارنة مع الساحتين السورية واللبنانية تعزز هذا الفهم. ففي سوريا، اعتمدت طهران على إنشاء ميليشيات محلية موازية للجيش النظامي منذ عام 2012 (مجموعة الأزمات الدولية، 2017)، بينما في لبنان كرست معادلة حزب الله كقوة موازية للدولة (معهد دراسات الأمن القومي – تل أبيب، 2022). أما في اليمن، فتسعى إيران لتحويل الحوثيين إلى "ذراع بحري" موازٍ، قادر على تهديد التجارة العالمية عبر البحر الأحمر.
الحالة السودانية تقدم مثالًا مشابهًا، حيث تحولت موانئ البحر الأحمر مثل بورتسودان إلى ممرات استراتيجية للصراع الداخلي منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، وسط دعم خارجي متباين للطرفين (مجلس الأمن، تقرير يونيو 2024)، وهذا يبرز كيف تحول البحر الأحمر إلى مسرح تتقاطع فيه الصراعات الداخلية مع المشاريع الإقليمية، وهو السياق الذي يوظفه الحوثيون اليوم لتعزيز نفوذهم.
وفي هذا الإطار جاءت زيارة وزير الدفاع الفريق الركن محسن الداعري ورئيس هيئة الأركان العامة الفريق صغير بن عزيز إلى المنطقة العسكرية الخامسة في أغسطس 2025، حيث تفقدا الجبهات بالساحل الغربي، حيث ان هذه الزيارة حملت دلالات سياسية وعسكرية مهمة، إذ أكدت على جاهزية القوات الحكومية لردع أي تحرك حوثي، وربطت الأمن المحلي اليمني بالمعركة الإقليمية على البحر الأحمر (المركز الإعلامي للقوات المسلحة اليمنية، أغسطس 2025)، حيث شملت هذه الزيارات تفقد تشكيلات قتالية برية وبحرية، واجتماعات مع قادة الألوية، وتفقد ميناء ميدي والجزر المجاورة. هذا يعكس أن التخطيط لا يقتصر على محور بري واحد، بل يتجه لعمليات متعددة المحاور، المحور البري يتركز في مديريات ميدي وحيران وحرض، وعزلة بني حسن في عبس.
اما المحور البحري يتمثل في تشكيل بحري لحماية الساحل ومنع تهريب السلاح ومزيد من الجاهزية و التنسيق مع قوات المقاومة الوطنية و القوات الحكومية المشتركة في هذه المحاور، بالإضافة الى المحور اللوجستي الذي يهدف لدعم الجبهة بخطوط إمداد من حجة إلى ميدي و غيرها.
وكما يبرز دور القوات المشتركة والمقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، في اعتراض شحنات أسلحة متطورة كانت مهربة إلى الحوثيين عبر البحر الأحمر ومنها شحنة أسلحة تزن 750 طنًا (تقارير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن، يوليو 2024)، هذه العمليات النوعية أسهمت في تعزيز الأمن البحري، وكشفت طرق التهريب الإيرانية التي تمر عبر سفن صيد وسفن شحن تجارية.
إلى جانب ذلك، فإن التنسيق العملياتي بين القوات المشتركة والتحالف العربي، ولا سيما القوات البحرية السعودية والإماراتية، شكل عنصرًا رئيسيًا في مراقبة الممرات البحرية وإغلاق طرق التهريب القادمة من القرن الأفريقي أو عبر السفن الإيرانية المتخفية (تقرير البحرية الأمريكية، يونيو 2024).
إلى جانب البعد الإقليمي، لا يمكن تجاهل العامل الداخلي في التصعيد الحوثي، فالجماعة تواجه منذ أشهر استحقاقات داخلية خانقة، أبرزها توقف صرف المرتبات في مناطق سيطرتها، وانعدام الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، إضافة إلى تصاعد النقمة الشعبية ضد سيطرة "الهاشمية السياسية" على مفاصل الدولة والإدارة، هذا الوضع فاقمه الضغط الاقتصادي الذي تمارسه الحكومة الشرعية عبر إجراءاتها المالية والمصرفية (مثل نقل الإيرادات والرقابة على التحويلات) مما ضيّق على الحوثيين مواردهم. في هذا السياق، يبدو أن فتح معركة بحرية أو رفع مستوى التوتر الإقليمي يمنح الحوثي فرصة للهروب من الأزمات الداخلية عبر تحويل الأنظار إلى "المواجهة الخارجية"، وإعادة تعبئة أنصاره تحت شعار "التصدي للعدوان"، وهو تكتيك يتكرر كلما تصاعد الغضب الشعبي في مناطق سيطرتهم.
هنا تبرز نقطة إضافية مهمة، وهي أن الضغوط الاقتصادية التي يفرضها البنك المركزي في عدن لعبت دورًا محوريًا في تقليص قدرة الحوثيين على إدارة الاقتصاد الموازي الذي اعتمدوا عليه خلال السنوات الماضية، حيث تسببت سياسات البنك في خنق حركة الأموال والتحويلات الخارجية، وفرض رقابة أكبر على شركات الصرافة، وهو ما أدى إلى تراجع تدفق العملات الأجنبية إلى صنعاء، هذه الإجراءات تزامنت مع تنامي الغضب الشعبي جراء الأوضاع المعيشية المتدهورة، حيث تصاعدت الاحتجاجات في صنعاء وذمار وإب بسبب الغلاء وانقطاع المرتبات، ما جعل الحوثيين أكثر هشاشة داخليًا، واضطرهم لتكثيف تحشيدهم العسكري في محاولة لصرف الأنظار عن فشلهم الاقتصادي والإداري.
اقتصاديًا، انعكس التهديد الحوثي على حركة التجارة العالمية بشكل واضح، فقد ارتفعت تكاليف الشحن عبر البحر الأحمر بنسبة تجاوزت 50% خلال النصف الأول من 2024 (بلومبرغ، يوليو 2024)، كما ارتفعت أقساط التأمين البحري و كلفة الشحن و النقل البحري على جميع الدول المشاطئة للبحر الأحمر وعلى الناقلات والسفن التجارية وبخاصة بعد إغراق سفن مملوكة ومدارة من شركات يونانية مثل ماجيك سيز وإيترنيتي سي وغيرها والتي تدخلت بمنظومتها الحديثة "كينتاوروس"، مما أدى إلى زيادة أسعار السلع عالميًا وأثر على الدول النامية، بما فيها اليمن التي تعتمد بشكل أساسي على استيراد الغذاء والوقود عبر هذا الممر، وهذا يوضح أن الحوثيين وإيران لا يوظفون التهديد العسكري فقط، بل يستخدمون التأثير الاقتصادي كسلاح استراتيجي في مواجهة الغرب.
الخلاصة أن التحركات الحوثية الأخيرة تمثل جزءًا من مشروع إيراني أوسع، يستهدف تحويل البحر الأحمر إلى ورقة ضغط إقليمية ودولية مرتبطة بالملف النووي الإيراني. جميع الأطراف، بما فيها الحوثيون، يستعدون لجولة جديدة من الحرب البحرية، قد لا تكون شاملة لكنها أوسع وأخطر من مجرد مناوشات محدودة، مما يجعل البحر الأحمر اليوم ساحة مركزية في الصراع الإقليمي، وورقة تفاوضية رئيسية في يد طهران، فهل استعدت الحكومة الشرعية ومؤسساتها العسكرية لمعركة غرب اليمن بما تحتاجه من معدات عسكرية متطورة كما فعل الحوثيين و ايران؟