استئناف الشحن البحري بين جدة والحديدة.. دلالات سياسية واقتصادية في المشهد اليمني

أيلول/سبتمبر 11, 2025

إعلان الغرفة التجارية الصناعية بأمانة العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين عن قرب انطلاق خط شحن بحري مباشر من ميناء جدة في المملكة العربية السعودية إلى ميناء الحديدة في الجمهورية اليمنية، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب عام 2015م، لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد حدث تجاري فقط، بل يمثل علامة فارقة تحمل أبعادًا سياسية واقتصادية عميقة، وتكشف عن تحولات في مقاربة التعامل مع الملف اليمني بعد عقد من الصراع مع مليشيات الحوثي الانقلابية التي سيطرت على العاصمة صنعاء وأجزاء هامة من اليمن وذات كثافة سكانية كبيرة في 2014م.

ويأتي هذا التطور في وقت يتصاعد فيه التنافس الدولي على البحر الأحمر بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، بما يجعل أي خطوة تجارية أو بحرية مرتبطة مباشرة بالمعادلات الجيوسياسية الأوسع وبعد أن استهداف الحوثيين للسفن والملاحة في البحر الأحمر والضربات الأمريكية و الإسرائيلية على الحوثيين
(مجلة Foreign Affairs، 2024).

منذ اندلاع الحرب اقتصر نشاط ميناء الحديدة على استقبال شحنات إنسانية تخضع لرقابة مشددة من الأمم المتحدة، فيما اضطر التجار إلى الاعتماد على موانئ بديلة مثل جيبوتي وعدن وصلالة، وهو ما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل وتضاعف أسعار السلع الأساسية، بما زاد من الأعباء المعيشية على المواطنين في بلد يعيش إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية عالميًا (تقرير برنامج الأغذية العالمي، 2023). ومن هنا، فإن استئناف خط الشحن المباشر من جدة إلى الحديدة يعيد رسم معادلة التدفقات التجارية، ويتيح فرصًا لتقليص التكاليف وتسريع وصول البضائع، وإن كانت الاستفادة الفعلية مرهونة بمدى انعكاس هذا التطور على حياة المواطنين وليس فقط على الحسابات الاقتصادية للفئات المتنفذة.

سياسيًا، يمثل هذا التطور إشارة قوية إلى مرحلة جديدة من التفاهمات بين الرياض وصنعاء، حيث يبدو أن المملكة تميل إلى اختبار سياسة أكثر براغماتية، بالانتقال من الضغط العسكري إلى إجراءات بناء الثقة، وهو ما يتناغم مع الحراك الإقليمي والدولي الجاري لإحياء مسار السلام (مركز صنعاء للدراسات، 2024). كما أن فتح هذا الخط يعكس جزءًا من التحولات الأوسع في السياسة الخارجية السعودية، بما في ذلك إعادة تموضعها في ملفات حساسة وعلاقاتها المتشابكة مع إيران (المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS، 2023).

على الصعيد الاقتصادي، قد يخفف فتح الخط المباشر من الأعباء الكبيرة التي تكبدها التجار، لكن التحدي يكمن في إدارة هذا النشاط من قبل القوى المسيطرة على الميناء. فاستمرار سيطرة الحوثيين على الحديدة يعني أن هذه الحركة التجارية قد تمنحهم قوة تفاوضية إضافية، وقد تُستغل لتعزيز مصادر تمويل المجهود الحربي بدلًا من تحسين الوضع المعيشي للمواطنين، وهو ما يجعل هذا الحدث اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الأطراف على توظيف العوائد الاقتصادية لخدمة الاستقرار بدلًا من تغذية الصراع (مجموعة الأزمات الدولية، 2023).

إقليميًا، يعكس استئناف الحركة المباشرة بين جدة والحديدة تغيرًا في قواعد اللعبة، إذ لم يعد النهج القائم على الحصار والسيطرة المشددة على الموانئ هو الخيار المفضل، بل باتت الأولوية موجهة نحو التهدئة والانفتاح التدريجي، بما يمهد الطريق لمفاوضات سياسية أوسع قد تعيد رسم المشهد اليمني (الأمم المتحدة، تقرير المبعوث الأممي لليمن، 2024).

وعند مقاربة هذه الخطوة مع تجارب دولية مشابهة، يمكن ملاحظة أن الموانئ لعبت أدوارًا محورية في مسارات الصراع والتسوية. ففي لبنان خلال الحرب الأهلية (1975–1990) ظل ميناء بيروت شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا رغم تعرضه للسيطرة والانقسام بين الميليشيات، وفي ليبيا شكّل ميناء طرابلس نقطة استراتيجية في الصراع بعد 2011 (تقرير الأمم المتحدة عن ليبيا، 2019)، كما أن تجربة موانئ الصومال تقدم مثالًا على كيفية تحوّل الموانئ إلى أدوات صراع ثم إلى أوراق لبناء الثقة تحت مظلة إقليمية ودولية (Chatham House، 2020). هذه الأمثلة توضح أن فتح خط الشحن المباشر بين جدة والحديدة لا يحمل بعدًا اقتصاديًا فحسب، بل يمكن أن يكون رافعة سياسية تفتح الطريق نحو حلول أوسع، أو على العكس قد يتحول إلى أداة جديدة لتعزيز النفوذ إذا لم تُدار بشكل متوازن.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال قصور آلية التفتيش الأممية في جيبوتي، التي أنشئت لضمان عدم تهريب السلاح إلى اليمن، لكنها فشلت عمليًا في ضبط كثير من الشحنات التي تسربت إلى الحوثيين عبر البحر الأحمر، بما في ذلك الأسلحة الإيرانية وحبوب الكبتاجون (تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة حول اليمن، 2023). وقد كشفت تقارير عن ضبط شحنات ضخمة في سواحل البحر الأحمر والمهرة وعدن، كان أبرزها إعلان البحرية الأميركية في يناير 2023 عن اعتراض سفينة محملة بأكثر من 2000 بندقية هجومية إيرانية في خليج عُمان (US Navy، 2023)، وضبط السلطات اليمنية في المهرة عام 2022 شحنات كبتاجون تجاوزت ملايين الحبوب (الشرق الأوسط، 2022)، إضافة إلى ضبط قوات خفر السواحل في البحر الأحمر شحنات أسلحة ومخدرات متكررة خلال السنوات الماضية (تقرير الأمن البحري الإقليمي، 2023). هذه الوقائع تؤكد أن البحر الأحمر تحول إلى ممر تهريب استراتيجي، وأن آليات التفتيش القائمة عاجزة عن وقف هذا التدفق غير المشروع.

من هنا، فإن استئناف خط الشحن المباشر بين جدة والحديدة يرتبط أيضًا بمستقبل الأمن البحري في البحر الأحمر والخليج العربي، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية، وتبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة تجمع بين تحرير التجارة وحماية الممرات البحرية من التهريب والقرصنة واستخدامها كأدوات صراع. ومن دون معالجة هذه الثغرات الأمنية، فإن أي مكاسب اقتصادية قد تتآكل تحت ضغط تهريب السلاح والمخدرات الذي يهدد استقرار المنطقة بأكملها.

في المحصلة، يمثل استئناف خط الشحن المباشر من جدة إلى الحديدة خطوة تتجاوز كونها حدثًا اقتصاديًا، لتصبح مؤشرًا سياسيًا واستراتيجيًا يعكس تحولات في مواقف الأطراف الإقليمية والدولية تجاه الصراع في اليمن. ومع ذلك، فإن جدوى هذه الخطوة ستظل مرهونة بقدرة الأطراف اليمنية والإقليمية على تحويلها إلى أداة لبناء السلام، بدلًا من أن تتحول إلى ورقة نفوذ جديدة تكرس الانقسام.

Additional Info

  • المصدر: تعز تايم - أ.د. عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني
Rate this item
(0 votes)
LogoWhitre.png
جميع الحقوق محفوظة © 2021 لموقع تعز تايم

Design & Developed by Digitmpro