ويزاول هذا النشاط، منذ سنوات، ليتغلَّب على جزء ولو متواضع من التبعات الكارثية للحرب والحصار المطبق على المدينة من قِبل مليشيا الحوثيين، منذ العام 2015، وليوفِّر القوت الضروري لأسرته المكوّنة من زوجة و9 أطفال، بينهم 2 من ذوي الإعاقة إلى جانب والده ووالدته المسنين.
ويشكّل بيع المشاقر مصدر دخل وحيد للرجل وعائلته الكبيرة كما هو الحال بالنسبة لأهالي قرية المبهاق، التي لجأ سكانها، خلال سنوات الحرب، إلى زراعة النباتات العطرية، التي تدخل في تشكيل المشاقر بكثافة، وعلى مساحات واسعة.
ويجد غالب هذه المهنة قريبة من نفسه وولعه المتوارث بالمشاقر، ويوفِّر من عائداتها اليومية المتواضعة احتياجات أسرته الأساسية البسيطة؛ في حين تشهد ارتفاعاً حاداً في أسعارها، ويصعب إيصالها إلى قريته البعيدة عن المدينة والقريبة من خطوط التماس.
وفيما يرى أن هذا النشاط يتناسب مع عمره وعجز جسده المنهك عن حمل الأثقال، أو مزاولة أعمال أخرى، إلا أنه يظل واقفاً طوال الوقت في مكان تواجده المعتاد بشارع الحصب، وسط المدينة، حاملاً في يديه الكاذي، أو حُزم المشاقر، ويعرضها على زبائنه من موقعه المكشوف لأشعة الشمس، ويتفادى القليل منها بقبعة مصنوعة من سعف النَّخيل.
- امتداد المعاناة
يُعد ذلك امتدادا لرحلة شاقّة، فالرَّجل يصحو باكراً، ويجمع المشاقر من مزرعته الصغيرة، أو يشتريها من الأنحاء المجاورة، أما الكاذي فيجلبه من محافظة لحج المجاورة، كما يضعه بعناية داخل كيس بلاستيكي، ومن ثم يتوجَّه لبيعه.
يتطلب وصوله إلى وجهته، المتعارف عليها لدى زبائنة في وسط المدينة، خوض رحلة يومية شاقة، حيث يجتاز المسافة الفاصلة بين قريته ومركز المدينة، المقدرة ب7 كيلو مترات سيرا على الأقدام، ويستغرق ذلك منه عدَّة ساعات، كما يقول غالب لموقع "بلقيس".
وما إن يحط رحاله قُرب معهد الوطنية، الواقع في شارع الحصب وسط المدينة، يدشن عملية بيع ما بحوزته من مشاقر إلى أن يحين وقت الظهيرة أو العصر، ومن ثم يعود إلى منزله سيرا على الأقدام.
يقول غالب لموقع "بلقيس": إن الأقبال على المشاقر يتفاوت من يوم إلى آخر، وهناك زبائن معروفين لديَّ، يأتون لشرائها منتصف أو نهاية الأسبوع، ويتراوح سعر المشقر الواحد من 500 إلى 1000 ريال، فيما يتراوح سعر الحبة الكاذي من ألفي إلى 8 آلاف ريال".
ويضيف: "العائد المادي متفاوت، أحياناً أربح 4 آلاف ريال، أو 5 آلاف ريال، وأحياناً أبيع برأس المال، وأحياناً لا أبيع شيئاً".
المُسن مهيوب قائد -أحد زبائن غالب- يقول لموقع "بلقيس": "منذ اندلاع الحرب، أتردد على الرجل مرتين أو ثلاث في الأسبوع، وأشتري المشاقر؛ لكونها جزءا من تراثنا وتقاليدنا، كما أن رائحتها طيبة، وتعطر المنزل، كما تتشقر بها نساؤنا، وهي عادة متوارثة".
- توجّه جماعي
ويتشاطر غالب مع سكان قريته هذا العناء والنشاط، الذي لجأ إليه العشرات، بينهم شباب وأطفال، في محاولة لمواجهة قسوة الحياة والظروف والعزلة والتهميش وانقطاع الطريق والحرمان من الخدمات والمساعدات الإنسانية، وندرة الأعمال، وغياب مصادر الدخل.
فالتوجُّه نحو زراعة النباتات العِطرية نشاط معتاد ومتوارث منذ عشرات السنين، إلا أنه توسَّع منذ العام 2015 بشكل كبير في قرية المبهاق، كما انتعش العمل في بيعها، وأضحت مصدر دخل لعشرات الأسر في القرية.
يقول مبارك الوهابي -أحد سكان قرية المبهاق- لموقع "بلقيس": "يقطع غالب، وغيره من باعة المشاقر، الطريق إلى المدينة سيرا على الأقدام؛ نظراً لوعورة الطريق البديل، وانقطاع الطُّرق الرئيسية؛ جراء القصف المتكرر من قِبل مليشيا الحوثيين، وغلاء أسعار الوقود، وإيقاف السائقين للسيارات، وشراء دراجات نارية لنقل الركاب، مقابل 6 آلاف، أو 7 آلاف ريال للراكب الواحد".
يقطن قرى المبهاق قرابة 5 آلاف نسمة، وتقع بين عُزلتين تنفي سلطاتهما المحلية تبعيَّتها لأي منها، كما لا تصلها منظمات الإغاثة، وتعاني من شحة المياه، خصوصا في فصل الشتاء، إذ يجلبونها على ظهور الحَمير من مناطق بعيدة، كما اضطروا إلى بيع المواشي، وتخصيص حصتها من المياه لصالح المشاقر.
وتعد زراعة المشاقر وبيعها من أبرز مفردات الموروث الشعبي في البلاد، يقول نائب مدير عام الهيئة العامة للآثار في تعز، أحمد جسار، لموقع "بلقيس": إنها عطور طبيعية، دخلت منذ القدم في الطقوس الدينية، والمناسبات، والافراح، والطب البديل، والمأكولات الشعبية، كما اقترنت بهندام المرأة والرجل، والزي الشعبي الأصيل، وغيرها من المظاهر، التي تناقلتها الأجيال حتى اليوم.