اجتماع مجلس إدارة البنك المركزي اليمني في عدن يوم الأحد 31 أغسطس 2025 جاء مثالاً لذلك النهج، حيث قرر المجلس الإبقاء على السعر المعلن للريال اليمني مقابل الريال السعودي (425 للشراء و428 للبيع)، معتبراً ذلك خطوة للحفاظ على الاستقرار ومنع المضاربين من العبث بالسوق، ومشدداً على نجاح اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات في ضبط حركة النقد الأجنبي (عدن الغد، 31 أغسطس 2025). غير أن القراءة التحليلية تكشف أن هذا التثبيت لا يعكس توازناً نابعاً من قوة الاقتصاد، بل هو انعكاس لإجراءات فوقية لم تستند إلى زيادة في الإنتاج أو نمو في الصادرات النفطية أو تحصيل الإيرادات العامة بصورة منتظمة.
المشكلة تكمن في أن السوق الموازي لا يعترف بهذه الأرقام المعلنة، فالمضاربة تبقى المحرك الرئيس لحركة العملة، وكبار المتنفذين يظلون المستفيد الأكبر من الفجوة بين السعر الرسمي والسعر المتداول فعلياً. وقد ناقشت هذه القضية في أكثر من مقال خلال الأشهر الماضية 2025، نُشر في مواقع الساحل الغربي ومأرب برس وتعز تايم وبران برس وعدن الغد وبلقيس نت، حيث أكدت أن التثبيت المصطنع للعملة يمثل انعكاساً لعجز الشرعية عن صياغة سياسة اقتصادية متماسكة قادرة على استعادة الثقة بالريال عبر أدوات واقعية مثل ضبط الإيرادات، وتنشيط القطاعات الإنتاجية، وتفعيل الشفافية في إدارة النقد الأجنبي.
كما تناولت هذه الإشكالية في لقاءاتي مع قنوات بلقيس ويمن شباب والمهرية، حيث شددت على أن أي حديث عن تحسن اقتصادي يظل مجرد خطاب إعلامي إذا لم يقترن بإصلاحات هيكلية، وفي مقابلات أخرى مع قناتي اليمن اليوم واليمن الفضائية أوضحت أن المضاربة في سوق الصرف ليست عرضاً جانبياً بل هي انعكاس لغياب أدوات رقابية ورؤية اقتصادية حقيقية. في هذه النقاشات بيّنت أن المواطن البسيط يدفع الثمن النهائي، إذ يواجه تضخماً متزايداً وارتفاعاً في أسعار السلع الأساسية، بينما تتوسع هوامش ربح المضاربين والمتلاعبين.
وإذا ما قورنت الحالة اليمنية بالحالة اللبنانية، فإن المشهد يتقاطع في نقاط عدة، فلبنان عاش انهياراً متسارعاً في قيمة عملته الوطنية نتيجة المضاربات وغياب الإصلاحات البنيوية، بينما لجأت النخبة الحاكمة هناك إلى سياسات ترقيعية أشبه بما يحدث في اليمن، أدت إلى اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، وخلق اقتصاد موازٍ يخدم كبار المصرفيين والسياسيين على حساب المواطن (الوكالة الوطنية للإعلام – بيروت، 2023–2025). أما التجربة الليبية فهي بدورها تحمل ملامح شبيهة، حيث تسبب الانقسام السياسي والمؤسسي في تعدد السلطات النقدية وتضارب السياسات المالية، وهو ما جعل العملة الوطنية رهينة للصراع، وأدخل الاقتصاد في دوامة من الفوضى شبيهة بتلك التي يعيشها اليمن اليوم (تقارير البنك الدولي وصندوق النقد، 2022–2025).
الحلول الغائبة: أين تكمن الأولويات؟
إن الحديث عن "إجراءات البنك المركزي" يبقى ناقصاً ومبتوراً إذا لم يترافق مع خطوات اقتصادية ملموسة تلامس جوهر الأزمة. وأبرز هذه الخطوات:
1. إعادة تصدير النفط والغاز اليمني: اليمن يمتلك أهم مصدر للعملة الصعبة، وهو صادرات النفط والغاز، التي توقفت أو تقلصت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. لا استقرار نقدياً يمكن تحقيقه من دون إعادة تشغيل هذه الصادرات بشكل منتظم وشفاف، وتوريد عائداتها إلى البنك المركزي.
2. تشغيل مصفاة عدن: تعطيل المصفاة أضعف منظومة الطاقة الوطنية وأدى إلى الاعتماد الكامل على الاستيراد عبر تجار ومتنفذين. إعادة تشغيل مصفاة عدن تعني تقليص فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة، وتوفير المشتقات النفطية داخلياً، بما يعزز الأمن الطاقوي ويخفف الضغط على السوق النقدية.
3. استعادة دور الشركة اليمنية للنفط: إن عودة الشركة الوطنية لاستيراد وتوزيع المشتقات النفطية مباشرة، بعيداً عن شبكة الوسطاء والنافذين، هي خطوة أساسية لإغلاق منافذ الفساد وتقليل هوامش المضاربة التي تمارس على حساب المواطن.
4. كبح نفوذ كبار الصرافين: لا يمكن ترك سوق الصرافة في يد مجموعة محدودة تتحكم بالعرض والطلب. الحل يكمن في تدخل اقتصادي منظم عبر البنك المركزي، يتضمن وضع قيود صارمة على حركة المضاربين، وضبط عمليات التحويل الخارجي، وتعزيز الرقابة على شركات ومنشآت الصرافة.
الخلاصة:
من زاوية التحليل السياسي ـ الاقتصادي، فإن إصرار البنك المركزي اليمني على إبراز ما يسميه "نجاحات اللجنة الوطنية" دون معالجة جوهرية لمصادر الانهيار، مثل توقف الصادرات النفطية وضعف تحصيل الضرائب والجمارك وغياب وحدة القرار المالي، يعكس محاولة لتجميل المشهد لا أكثر. والعاقل يدرك أن هذه الإجراءات ليست سوى إدارة للأزمة عبر مسكنات مؤقتة، وأن أي استقرار نقدي لا يمكن أن يتحقق إلا بإصلاحات جذرية تبدأ من استعادة الدولة لمواردها السيادية وتحرير القرار الاقتصادي من قبضة المضاربين وقوى النفوذ.
إن ما يجري اليوم ليس استقراراً نقدياً بالمعنى الحقيقي، بل لعبة توازن هشة قائمة على التدخلات الإدارية والضغوط الآنية، ستنهار أمام أي هزة سياسية أو مالية جديدة. وإذا لم تتجه الحكومة إلى إعادة تشغيل صادرات النفط والغاز، واستعادة دور مصفاة عدن، وفرض سيطرة الدولة على استيراد المشتقات، وكبح كبار الصرافين، فإن الأزمة لن تنتهي، بل ستتفاقم كما حدث في لبنان وليبيا، حيث دفعت الشعوب الثمن الباهظ لتأجيل الحلول الحقيقية.
خطة استراتيجية من أربع نقاط للخروج من الأزمة
1. إعادة تصدير النفط والغاز اليمني
منهجية التنفيذ: إعادة تأهيل الموانئ وخطوط النقل، وضمان الحماية الأمنية للمنشآت، التعاقد مع شركات عالمية بشفافية لاستعادة الإنتاج والتصدير، توريد كل الإيرادات مباشرة إلى البنك المركزي بعد توحيد الحسابات.
التحديات: استمرار الهجمات على الموانئ، الانقسامات السياسية، الفساد الإداري و المالي وعدم التزام 147 جهة رسميةإيراداتها كبيرة لا تصل الى البنك المركزيو فروعه حسب تصريحات محافظ البنك المركزي اليمني احمد المعبقي.
النتائج المتوقعة: استقرار تدفق العملة الصعبة، تعزيز الاحتياطي النقدي، تقليص فجوة العجز المالي.
2. تشغيل مصفاة عدن
منهجية التنفيذ: إجراء صيانة شاملة عاجلة للمصفاة بدعم دولي، توفير الخام عبر اتفاقيات تبادل أو شراء حكومي مباشر، ربط عمل المصفاة بخطة توزيع وطنية بإشراف حكومي كامل.
التحديات: تآكل البنية التحتية، نفوذ شبكات الاستيراد الخاصة، غياب التمويل.
النتائج المتوقعة: خفض استيراد المشتقات الجاهزة، استقرار أسعار الوقود، دعم الصناعة المحلية.
3. استعادة دور الشركة اليمنية للنفط
منهجية التنفيذ: منح الشركة حقاً حصرياً لاستيراد المشتقات، تفعيل شبكة التوزيع الوطنية وإغلاق منافذ الاحتكار، فرض الشفافية في العقود والشراء والتوزيع.
التحديات: مقاومة المتنفذين، غياب الرقابة المستقلة، الضغوط السياسية.
النتائج المتوقعة: ضبط أسعار المشتقات، تقليص السوق السوداء، توفير إيرادات مباشرة للدولة.
4. كبح نفوذ كبار الصرافين.
منهجية التنفيذ: سن قوانين ملزمة لتحديد هوامش الصرف، إنشاء غرفة مقاصة مركزية تحت إشراف البنك المركزي، فرض عقوبات صارمة تصل إلى سحب التراخيص وإغلاق المنشآت المخالفة.
التحديات: تحالفات الصرافين مع قوى نافذة، ضعف جهاز الرقابة، الانقسام المؤسسي.
النتائج المتوقعة: استقرار سوق الصرف، تقليص فجوة السعر الرسمي والموازي، حماية العملة الوطنية.
المراجع المختصرة:
1. بيان مجلس إدارة البنك المركزي اليمني – عدن الغد – 31 أغسطس 2025.
2. مقالات للكاتب في مواقع: الساحل الغربي، مأرب برس، تعز تايم، بران برس، عدن الغد، بلقيس نت (2025).
3. مداخلات تلفزيونية عبر قنوات: بلقيس، يمن شباب، المهرية، اليمن اليوم، اليمن الفضائية (2025).
4. تقارير مقارنة عن الأزمة اللبنانية: الوكالة الوطنية للإعلام – بيروت (2023–2025).
5. تقارير اقتصادية حول ليبيا – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
أ.د.عبدالوهاب العوج أكاديمي ومحلل سياسي يمني