وفي الوقت الذي تتلاشى فيه يأكل جسدك نفسه: ويستهلك عضلاته حتى القلب، إلا أن عبدو سيد، 4 أعوام، “كان هزيلا جدا ووزنه لا يقل عن 6 كليوغرامات، ولم يكن يبكي عندما أحضر قبل فترة إلى مستشفى في عدن باليمن.
وهذا لأن الأطفال الجياع لا يبكون أو حتى تكفهر وجوههم ولكنهم هادئون، ويظهرون لا مبالين وحتى بدون مشاعر على وجوههم، والجسد الذي يواجه الجوع لا يضيع طاقته على الدموع. ويوجه كل سعر من السعرات الحرارية للحفاظ على عمل أجهزة الجسد الرئيسية”.
ومات عبدو بعد فترة قصيرة من وصوله إلى المستشفى، ولكن مصورا صديقا للكاتب واسمه غايلز كلارك التقاه في رحلته الأخيرة إلى اليمن سجل المشهد. وصوره التي ضمن بعضها في عموده هي شهادة مؤلمة، ولكن العائلات بما فيها عائلة عبدو لم تمانع في نشرها لأنها تأمل بلفت نظر العالم إلى مصير الأطفال الذين يموتون من جوع لا داعي له وتقديم المساعدة الماسة لمنع موت مزيد من الأطفال.
وكان العالم قد تغلب إلى حد ما على المجاعات حتى عام 2020. وكانت آخر مجاعة صغيرة أعلنت عنها الأمم المتحدة في جنوب السودان ولعدة أشهر عام 2017 إلا أن المنظمة الدولية تحذر اليوم من مجاعات تلوح بالأفق في اليمن وجنوب السودان وبوركينا فاسو وشمال نيجيريا مع وجود 16 دولة تقف في خلف ذلك الطريق الذي يقود نحو الكارثة.
ويقول مسؤول الجهود الإنسانية في الأمم المتحدة مارك لوكوك: “عادت المجاعات الآن” و”ستكون لطخة رهيبة على الإنسانية ولعقود قادمة لو كنا الجيل الذي شاهد عودة هذا البلاء الرهيب، ويمكن تجنب هذا”. ويعلق كريستوف أن جيلنا حظي بميزة العيش في مرحلة تاريخية انخفضت فيها معدلات الوفيات بين الأطفال وتراجعت فيها الأمراض والمجاعات وزادت معدلات التعلم وارتفعت فيها رفاهية الإنسان.
ويقول: “في هذا الوقت من العام أحاول مواجهة كل ما ورد من كآبة في مقالاتي السابقة وأكتب أن العام السابق كان الأحسن في تاريخ الإنسانية، وبمثل هذه المقاييس وفاة الأطفال في عمر الخامسة. ولكن عام 2020 لم يكن أحسن عام في التاريخ، بل كان عاما مريعا. وتحذر منظمة الطفولة العالمية (يونيسيف) من وفاة 10.000 طفل في كل شهر”.
وأضاف أن النكسات في العالم النامي فاقمها شلل وعدم اهتمام ولا مبالاة الولايات المتحدة وأوروبا والمنظمات الدولية مثل البنك الدولي.
ويرى أن السبب الأكبر للأزمة العالمية هو فيروس كورونا ولكن بشكل غير مباشر. فخارج العالم الغني، لم يكن الضحايا من الذين تجاوزت أعمارهم الثمانين وماتوا بسبب الفيروس، بل الأطفال الذي ماتوا بسبب الجوع الناجم عن إرباك الفيروس للاقتصاد أو الأشخاص المتوسطي العمر الذين ماتوا بسبب الإيدز لأنهم لم يستطيعوا الحصول على الدواء.
وقال إن عاصمة المعاناة الإنسانية اليوم هي اليمن الذي تصفه الأمم المتحدة بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم. و”في الوقت الذي نحتفل به في العام الجديد يموت الأطفال مثل عبدو من الجوع”.
وأضاف أن المعاناة اليمنية معقدة، فاليمن فقير دائما وحطمته الحرب والحصار الذي فرضته السعودية عليه بدعم من الولايات المتحدة، في عهد إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، رغم اعتراف مسؤولي إدارة أوباما لكن بدون صراحة أن هذا الدعم كان خطأ. وفاقمت سوء الإدارة الحوثية التي تدعمها إيران هذه المعاناة في وقت عانى فيه اليمن من وباء الكوليرا وفيروس كورونا بوقت واحد. وحرفت الدول المانحة عينها عن المعاناة اليمنية وركزت على مشاكلها.
المعاناة اليمنية معقدة، فاليمن فقير دائما وحطمته الحرب والحصار الذي فرضته السعودية عليه
ولو نظرت إلى أرقام المصابين بفيروس كورونا في الدول الفقيرة لأخذت انطباعا أنها تجنبته. وتجنبت الدول الصاعدة والنامية وفيات كبيرة من الفيروس، خاصة في أفريقيا. إلا أن هذا يتغير مع ظهور موجات من الإصابات، بالإضافة للآثار المدمرة وغير المباشرة للوباء التي ستتبع مثل زيادة الجوع والأمية والأمراض. وعنى الإغلاق حرمان العمال الذين يعتمدون على العمل اليومي من الدخل فيما لم يستطع مرضى السل الحصول على الدواء.
وعانت الحملات لمواجهة مرض الملاريا والإيدز وشلل الأطفال من التشتت والقصور، والتداعيات بدون نهاية حيث تحذر الأمم المتحدة من دفع الجو والإرباك في مناحي الحياة بسبب الوباء حوالي 13 مليون فتاة إلى الزواج مبكرا، كما أن عرقلة الوباء لحملات منع ختان البنات تعني تعرض مليوني فتاة إلى هذه الممارسة.
وتقول الأمم المتحدة إن عدم توفر حبوب منع الحمل قد يقود إلى 15 مليون حالة حمل غير مقصودة. ويقول البنك الدولي إن الوباء قد يدفع 72 مليون طفل إلى الأمية. وتقول أنجلين موريماريوا من منظمة كامفد التي تدعم تعليم البنات في دول الصحراء الإفريقية: “نحن نتحدث وبشكل متزايد عن جيل ضائع تم سحقه بشكل محتمل بسبب الوباء”.
وأكد خبير أن هناك 168.000 طفل قد يموتون بسبب فقر التغذية أي رقم مماثل لما حدث للطفل عبدو. وهناك الكثير من الأطفال الناجين من المرحلة هذه ولكن بثمن النمو العقلي المتأخر وفي بعض الحالات العمى الدائم بسبب الحرمان الذي عانوه في 2020 و2021. وقد زاد عدم مبالاة الدول الغنية من هذا الثمن الفادح.
ويقول رئيس التغذية في وكالة الأمم المتحدة للتنمية الدولية شوان بيكر: “مدى ضخامة المشكلة يدعو للغضب وما هو أكثر إثارة للغضب عدم وجود حلول قوية ثبتت نجاعتها لمواجهة هذه المشكلة الضخمة”.
ويمكن للدول الفقيرة الحصول على جرعات من اللقاحات لكي تطعم خمس سكانها مما يعني استمرار الفيروس. والسبب هو رفض أمريكا والدول الغنية وبضغط من لوبي شركات الأدوية تخفيف براءة الحماية لاختراع اللقاح وتوفيره للدول الفقيرة.
ويرى غايل سميث من “وان كامبين” الذي يدعو إلى إجراءات مساعدة للدول الفقيرة وتشمل ثلاثة وهي: توفير اللقاح وإلغاء الديون ومساعدة واسعة من الدول الفقيرة للغنية. وربما ثبت أن عام 2020 واحد من أحسن الأعوام في تاريخ الإنسانية لو انتهزت الدول الغنية الفرصة وساعدت الفقيرة.